عاشت الأغنية السعودية عصرها الذهبي في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، بفضل مرونة الإنتاج وقدرة أي شركة وأي أستوديو – بل حتى أي أستريو لبيع الكاسيت - على إنتاج الألبومات الغنائية وطرحها في السوق مباشرة بلا وسيط، فكان علي القحطاني مستمراً في إنتاج ألبومات نجوم الأغنية الشعبية ببدائية وكثافة عبر "تسجيلات الوادي الأخضر"، وسلامة العبدالله عبر شركته الخاصة "هتاف"، وعزازي عبر أستريو "السلسال الذهبي"، وكذا الأمر بالنسبة لبقية المطربين في كل مناطق المملكة. هذه المرونة الإنتاجية خلقت حالة رائعة من التنوع الموسيقي التي تعبر عن ثراء وتنوع المجتمع السعودي ذاته، حيث أصبح لكل لون موسيقي نجومه وجمهوره، فهذا عبدالله الصريخ يقدم لوناً خاصاً به يختلف عن فهد بن سعيد، وكلاهما يختلفان عن سلامة العبدالله، فيما فهد عبدالمحسن يقدم "مزاجاً" خاصاً يناسب أهل منطقته حائل، وكذا فتى نجران في الجنوب، وأبو سراج في الغربية، وطاهر الإحسائي في الشرقية. وإذا ذهبت لداخل المدن الكبيرة بحثاً عن أغانٍ تمثل "مزاج" الحداثة والمدنية الجديدة فستجد ذلك عند محمد عبده وطلال مداح ورابح صقر وراشد الماجد وبقية المغنين الجدد الذين ظهروا في الرياض نهاية الثمانينيات مثل خالد عبدالرحمن وعبادي الماجد وغيرهما. هذا ونحن لم نذكر بعد مزعل فرحان الذي كان يقدم نكهة شعبية مميزة تختلف عن النكهة التي يقدمها سعد جمعة وبدر الحبيش. في تلك الأزمنة الجميلة كان لكل فئة، لكل جماعة، لكل منطقة، فنان يعبّر عن شخصيتها وتراثها ومزاجها وذوقها، عبر أغانٍ تحتفي بالموسيقى وتعترف بها. لكن الحال تغيرت منذ العام 1994 عندما تأسست إذاعة MBC والفضائيات الخاصة وشركات الإنتاج الغنائية الكبرى، والتي خلقت واقعاً إنتاجياً جديداً وبمعايير فنية مختلفة لم تستطع الأستوديوهات القديمة مجاراتها والوفاء بها ما أدى إلى اندثارها واندثار التنوع الموسيقي الذي جاءت به، فأصبحت الأغنية السعودية منذ ذلك الحين رتيبة بليدة بمزاج واحد ونمط واحد لا يشبه المجتمع السعودي ولا يعبّر إلا عن "المزاج" النخبوي لمُهندسي الواقع الإنتاجي الجديد. رافق هذا التغير الجذري في بنية سوق الأغنية، ارتفاع وتيرة التشدد ضد الموسيقى، في التسعينيات خاصة، وازداد معها رفض الأغنية ونبذها عن الفضاء العام، ليتم حصرها في ذلك النوع المشوّه الذي تبثه الإذاعات والفضائيات؛ ذلك النوع الرتيب المرفوض سلفاً من المجتمع لأسباب ذوقية محضة، ما أدى إلى جفاف المنطقة من الفن وغيابه التام لسنوات.. حتى اكتشف المجتمع "الشيلات"! "الشيلات" في جوهرها غناء طربي يبهج النفس، وهي تترك في ذات المستمع نفس الأثر الذي تتركه الأغاني الموسيقية، ومع ذلك فإن لها قبولا اجتماعيا كبيرا يُثير التساؤل؛ إذ كيف لمجتمع يرفض الموسيقى ويحارب الفنون ظاهرياً أن ينكبّ على الشيلات انكباباً كبيراً بكل فئاته، رجالاً ونساء، أطفالاً، شيباً وشيباناً، حتى وصل الأمر إلى أن التجمعات الرجالية التي كانت جافة إلى وقت قريب أصبحت لا تخلو اليوم من "شيلات" يتراقص حولها المدعوون بنشوة عارمة؟ فما الذي تغير في المجتمع حتى أصبح يمارس أفعالاً كانت إلى وقت قريب تصنف ضمن "خوارم المروءة"؟! إن ما جرى ببساطة أن هذا المجتمع الذي آمن دون اقتناع بخطورة الأغاني، التف على قناعته هذه وتحايل عليها واخترع وسيلته الخاصة لتلبية احتياجه الفطري للفنون. إن الفن تعبير عن خلجات النفس الفكرية والنفسية والعاطفية، ومثلما أن الإنسان يحتاج للأكل والشرب والنوم، وللكلام للتعبير عن أفكاره، فإن ذاته الداخلية بحاجة للتعبير عن مشاعرها التي لا تستطيع حملها الكلمات، وهنا يأتي دور الفن ووظيفته وأهميته؛ إنه يلبي حاجة "فطرية" للإنسان لا يمكن حبسها ولا كبحها بأي طريقة، وهذا تؤكده عودة الفنون إلى فضائنا العام عبر بوابة "الشيلات" بعد سنوات من الجفاف. هذه العودة لا تعدو أن تكون استجابة من المجتمع لأمر "فطري" لا حول له فيه ولا قوة، مهما وقفت ضده فإنه حتماً سيظهر بشكل آخر. لقد حسم المجتمع خياره وصنع فناً يُرضي جميع الأطراف! ويعبر عن ثراء وتنوع ثقافي، تتعدد فيه الأصوات والأمزجة والأذواق، ويرقص على أنغامه حتى كبار السن. فناً مهما كان رأيك الجمالي فيه وفي كلماته وألحانه، إلا أنه يبقى وسيلة اختارها الناس رداً على إقصاء الأغاني، وسلاحاً ضد التنميط الفني الذي أصاب الأغنية السعودية وجعلها أغنية فقيرة ذات "مزاج" واحد رديء.