ما يجري في منطقتنا العربية، ولا سيما فيما يتعلق بمأساة هجرة اللاجئين الهاربين من الموت وجحيم الحروب وبطش أنظمتهم القاسية في بلدانهم، وصل الى مستوى من الغرابة واللامنطقية والكوارث والمأساة غير المسبوقة، اذ كيف لعقل ان يتقبل ما يجري إن بلدانا عربية تطرد شعوبها وتتخلى عنهم بهذه الصور البشعة والمرعبة والصادمة. المجتمع الدولي لم يتفاعل مع المأساة بشكل جدي وإنساني ولم يقدم سوى 60% من الاحتياجات المطلوبة ملايين الهاربين من محتلف الجنسيات العربية من الموت والظلم والعنف والتهديد بالقتل والجوع، يلقون بأنفسهم في البحار والبواخر وعبر الغابات والأسلاك الشائكة وطرقات الرحيل الوعرة والهروب القسري في كل مكان وعلى شاشة التلفزة بمشاهد تدمي القلوب وتقشعر لها الأبدان اناس في ريعان الشباب في مقتبل الأعمار وكذلك شيوخ وكهول ونساء وفتيات ورضع وعجزة وأطفال، يموت الكثير منهم تتقاذفهم الأقدار ومنهم من يموت على الطرقات والغابات ويغرق بالأنهر، وكثيرون تبتلعهم امواج البحر، في مشهد تراجيدي حزين، لا يقبل اي تفسير عقلاني مهما قل شأنه، انه مشهد مرعب يصور اخطر مأساة يشهدها العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية. 7.5 ملايين نازح داخل سورية يواجهون القتال مباشرة ويحصلون على مساعدات أسوأ من لاجئي الخارج ومع ان اللاجئين ينتمون الى اكثر من بلد عربي وافريقي، الا ان الأغلبية للأسف من العرب والمسلمين، وحضور الازمة السورية هو الطاغي في هذه المناظر القاتمة، وكذلك الوضع المأساوي بالعراق. يقول المفوض السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس إن عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية بلغ ثلاثة ملايين وتسعمائة ألف و89 لاجئا، هذا عدا عن مئات الآلاف الذين هربوا من بلادهم ولم يقيدوا في سجلات المفوضية. المفوض السامي لشؤون اللاجئين يطالب باستقبال السوريين على مستوى العالم وتقديم برامج لحماية العائلات والأطفال ويصف غوتيريس، أوضاع اللاجئين السوريين بأنها «أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية»، لكنه في المقابل أوضح أن ثمة ضغطا على البلدان المجاورة التي تستضيف اللاجئين، ففي لبنان 1.8 مليون لاجئ يمثلون مع اللاجئين الفلسطينيين ثلث السكان، وفي الأردن رقم مشابه، أما مصر فتستضيف 150 ألفا، والعراق مئة ألف. وأبدى المسؤول الدولي أسفه لأن المجتمع الدولي لم يتفاعل مع هذه المأساة بشكل جدي وحاسم وإنساني، لم يقدم سوى 60% من الاحتياجات المطلوبة، علما بأن الأردنولبنان تقدما إلى مؤتمر المانحين في الكويت بطلب مساعدات تنموية في الماء والكهرباء والتعليم التي تعاني من ضغط شديد وتحتاج حشدا دوليا «للتعاطي مع هذا التحدي المريع، كما أضاف. ومضى يقول «أشعر بقلبي ينفطر للذين يموتون غرقا في محاولتهم الوصول إلى أوروبا» عبر المتوسط «أو يتعرضون للأذى»، مطالبا بفتح الباب للاجئين السوريين على مستوى العالم ومنحهم سمات دخول أكثر مرونة وبرامج لحماية العائلات والأطفال. آلاف اللاجئين في مخيم استقبال وحول النازحين داخل سورية، قال إن ثمة سبعة ملايين ونصف نازح تسعى الكثير من المنظمات الإغاثية إلى مساعدتهم، لكن المساعدات التي يحصلون عليها أسوأ مما يحصل عليها اللاجئ خارج سورية لأنهم يواجهون القتال مباشرة مما يصعب الوصول إليهم. وتجدر الاشارة الى أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين كانت قد أعلنت أن أكثر من 12 مليون سوري بحاجة للمساعدة للبقاء على قيد الحياة من الموت الهلاك. وبيَّن غوتيريس أن اللاجئين السوريين في الأردن خارج المخيمات يعيش ثلثاهم تحت خط الفقر، بينما نصف اللاجئين في لبنان يعيشون في بيوت لا تتوافر فيها شروط الكرامة الإنسانية لحمايتهم من البرد والحر والعطش. ولو حاولنا تتبع هذه المأساة الانسانية بترو لوجدنا انها مأساة مركبة، ومتشعبة الاطراف والاتجاهات، ناهيك عن التعقيد الشديد الذي تتسم به، فهي في البداية نتاج انظمة غير مسؤولة لا تحترم حقوق الانسان ولا تراعي مسألة توفير الشروط الانسانية للفرد، كما انها مشكلة اجتماعية بامتياز يسبب الفقر ازديادا كبيرا فيها، ولا سيما بالنسبة للدول الافريقية التي تعاني من ازمات اقتصادية وسياسية كثيرة، وهو ما ينسحب ايضا على بعض الدول العربية التي صدرت الالاف بل الملايين من اللاجئين بسبب ما شهدته وتشهده من صراعات سياسية وطائفية ونزاعات أقتتال مابين المجتمعات، وهو ما افرز ظروفا غير مواتية للحياة الانسانية الكريمة، فالوطن الذي لا يوفر الامن والامان لابنائه، ولا يحقق لهم الشروط المناسبة للحياة، سيكون بالفعل مكروها ولايستحق التضحية، ومنفراً لابنائه الذين سيبحثون عن منافذ اخرى للحياة،ومع ان مشكلة المهاجرين ليست حديثة العهد، حيث شهدت السواحل الاوروبية موجات مهاجرين كثيرة، حتى قبل اندلاع ما سمي بالربيع العربي، الا ان تفاقمها بهذا الشكل المخيف مرتبط بالاحداث الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة العربية مؤخراً، والتي سمحت للتدخلات الدولية بطرح اجنداتها التي ربما تكون بعيدة كل البعد عن المصالح الحقيقية للانسان العربي داخل وطنه. مهاجرون من بلادهم إلى المجهول صحيح ان الهرب من جحيم الموت والحروب المنتشرة في اكثر من بلد عربي، هو الدافع الاكبر لهذه الموجة غير المسبوقة من الهجرة، الا اننا يجب الا نغفل ابدا محاولة استغلال الكثير من القوى الخارجية ما حدث في المنطقة العربية، لتنفيذ مخططات قديمة جديدة، تستفيد مما يحدث بشكل انتهازي رخيص، واول هذه القوى الأجنبية هو الكيان الصهيوني الذي استفاد ويستفيد مما يجري في المنطقة على اكثر من صعيد، وكذلك دول عربية أخرى تريد تهجير الشعوب وأفراغها من مجتماعتنا العربية التي كانت منسهرة ومنسجمه مابينها تحت مظلة الهوية الوطنية الواحدة، قبل تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي الذي فتك بنسج هذه المجتمعات العربية، حيث استفاد هذا الطرف أو ذلك من حالة الفوضى التي تشهدها الدول العربية ولا سيما المحيطة به، بالإضافة على ذلك ان من مصلحة الكيان الصهيوني تفريغ المنطقة من طاقاتها الشبابية، بالاضافة الا تهجير اكبر عدد ممكن من المواطنين الفلسطينيين للمشروع الاستعماري الاستيطاني في المنطقة، لأن الكيان الصهيوني ومن يتفق معه في عداوة العرب يسعى دائما لبذر بذور الحروب الدينية والطائفية في المنطقة سعيا وراء تقسيمها الى دويلات طائفية ومذهبية، وأثنية تبرر وجوده ككيان عنصري دخيل في بلادنا صحيح ان منطقتنا العربية مليئة بالاسباب الداعية للتغيير، الا اننا نتوقف ايضا عند مسالة ان التغيير الحقيقي والثوري، هو التغيير الساعي الى الافضل وليس الى التدمير والقتل من اجل التصفيات والتهجير، وهو ما ترجمته المنظمات الارهابية والميليشيات الطائفية الكثيرة التي انتشرت في بلادنا واولها تنظيم القاعدة وداعش وأخواتها، والمليشيات الشيعية الطائفية الأخرى، الذين ساهموا بافعالهم الاجرامية في زيادة عدد الهاربين واللاجئين الى الدول الاوروبية بحثا عن الامان والخلاص من الموت والجحيم، وكان هذه التنظيمات الدموية الارهابية، تعمل كطرفي مقص، حيث يواجه الانسان العربي القمع والاضطهاد والتنكيل والابتزاز من هذه التنظيمات الارهابية المجرمة، لدفعه الى الهجرة والهروب من الوطن، حيث تخطط الدوائر هذه الدوائر والأحزاب الطائفية الاستفادة فيما بعد من هؤلاء المهاجرين ولا سيما الفئة الشبابية منهم، لا سيما وان اوروبا تواجه مشكلة ديمغرافية حقيقية، وتدني واضح في عدد السكان، وهو امر بات يهدد مستقبل اوروبا باكملها، وهنا يجب الا نغفل ايضا دور تجار البشر بهؤلاء الغلابى، وما يجنونه من مكاسب مادية خيالية على حساب هؤلاء المساكين الذين تقطعت بهم السبل، ليصبحوا بين ليلة وضحاها فريسة امام انياب المافيات العالمية التي تتاجر بالبشر وتمتص دمائهم وتستغل معاناتهم وأوضاعهم المعيشية الصعبة، وهو ما دفع بالاوروبيين الى زيادة ضغطهم على مهربي المهاجرين عبر البحر المتوسط باستخدام القوة في المياه الدولية قبالة ليبيا، حيث تؤكد رئيسة المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، ان الاتحاد الأوروبي وافق على استخدام القوة العسكرية لمحاربة مهربي المهاجرين الذين يعملون انطلاقا من ليبيا، عبر خطة تشمل مصادرة زوارقهم، وذلك في إطار تعزيز عملياته البحرية في المتوسط، شرط البقاء في المياه الدولي، وكذلك استخدمة تركيا نفس الطريقة لمنع مغادرة الزوارق المحملة بالمهاجرين الى اليونان. يهربون من الظلم إلى المطاردة وأطلق الاتحاد الأوروبي عملية «ناف فور ميد» أواخر يونيو/ الماضي في البحر المتوسط وشاركت فيها أربع سفن وحاملة طائرات إيطالية وأربع طائرات ومئات الجنود من اثنين وعشرين بلدا أوروبيا، بحسب المسؤولة الأوروبية، علما بأن العملية كانت تقتصر على مراقبة المياه الدولية التي تعبرها يوميا من السواحل الليبية مراكب هشة مكتظة بالمهاجرين إلى إيطاليا. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي يواجهها اللاجئون الا ان تدفق الالاف منهم إلى دول مجاورة عدة في طريقهم إلى غرب أوروبا، يشير الى ان هذه المشكلة ما تزال مرشحة للاستمرار والازدياد وعلى المدى البعيد، خاصة في ظل عدم وجود افاق قريبة للحل بالنسبة للازمة السورية او الاوضاع في العراق وليبيا وغيرهما من الدول التي تعاني من مشكلات سياسية حادة. وتشير الانباء الى أن آلافا لا يزالون في أثينا وفي بعض الجزر اليونانية في انتظار وصولهم الى اوروبا الغربية، التي يعتقد المهاجرون انها باتت تمثل الهدف الافضل لهم، في ظل ما تشهده المنطقة من قلاقل غير مسبوقة، وعلى الرغم من تقبل بعض الدول الاوروبية لاستيعاب الكثير من المهاجرين لاسباب خاصة بها اولا واخيرا، الا ان بعض الدول لم يتعامل مع هذه الازمة تعاملا انسانيا كما يجب، كما هو الحال بشكل خاص بالنسبة للمجر، التي تصر حكومتها اليمينية على العزف على اوتار الخطر المزعوم الذي يشكله هؤلاء المهاجرين على المجتمعات الاوروبية المسيحية. وكان تمكين اليونان آلاف المهاجرين من العبور إلى مقدونيا قد أثار توترا بين البلدين استدعى غلق المعبر الحدودي بينهما رغم إن الوضع يتطور نحو أزمة إنسانية أخطر مع تدفق مزيد من المهاجرين غير النظاميين الساعين إلى بلوغ دول بغرب أوروبا لها اقتصادات قوية مثل ألمانيا. ويصف بعض المحللين السياسيين أزمة المهاجرين غير النظاميين الحالية نحو غرب أوروبا بأنها ربما تكون الاسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، وتسوء هذه الأزمة أكثر فأكثر في ظل عدم توافق الحكومات الأوروبية على كيفية التصدي لموجات الهجرة وعلى توزيع المهاجرين الذين دخلوا بالفعل إلى الاتحاد الاوروبي. ويعتقد البعض وهو اعتقاد خاطيء ان اللجوء الى اوروبا قد يحل مشكلات اللاجئين الحالمين برغد العيش والامان والاستقرار، لكنه مع الاسف فان الواقع يقول عكس ذلك في بعض الاحيان ان لم نقل كلها، حيث ان الاوروبيين وخاصة في دول الشمال، يفرقون بين الناس حسب لونهم وديانتهم ومعتقداتهم، متجاهلين في كثير من الاحيان خبراتهم العلمية والعملية ومستوى تأهيلهم والتعاطف معهم والتعامل معهم على انهم بشر فقط. كما توجد هناك صعوبة في الاندماج كون المواطن الاصلي لا يزال متاثرا بالاعلام الموجه ضد العرب خاصة، رغم ان حكومات دول الشمال تبذل اقصى الجهود في مد جسور التعاون والاندماج بين المواطنين الاصليين والمهاجرين لقناعتهم بان للمهاجرين دورا كبيرا في تسيير امور المجتمع والدوله في المستقبل القريب. وتُعتبر الهجرة خاصية إنسانية سكانية تتمثل في الانتقال من مكانٍ إلى آخر بحثاً عن ملاذ آمن وحياةٍ أفضل أو هروباً من وضعٍ سيء ومعقد، ومن ناحية اقتصادية يُمكن أن يكون للهجرة المنظّمة ردوداً إيجابية كبيرة سواء على المجتمعات المُهاجَر منها أو المُهاجَر إليها، بما في ذلك نقل المهارات والخبرات وإثراء الثقافات، وتُشير تقديرات الأممالمتحدة إلى أن عدد المهاجرين في العالم وصل إلى أكثر من 200 مليون شخص، ولكن المفارقة التي لابد من ذكرها هنا هي انه بقدر ما يُسهم المهاجرون في بناء المجتمعات المستضيفة بقدر ما يمثّل ذلك خسارة موارد بشرية كبيرة وثروة بشرية مغادرة للدول المُهاجَر منها أي ما يُعرف بهجرة العقول المهاجرة والكفاءات. كما أن الهجرة نفسها قد تسبب في خلق توترات سياسية واقتصادية أو اجتماعية في البلدان المُهاجر اليها. ويذكر تقرير اللجنة الدولية للهجرة GCIM إلى أن عدد المهاجرين في العالم وصل في الوقت الحاضر إلى 200 مليون نسمة مقابل 75 مليوناً قبل ثلاثين سنة وفي هذا الإطار برز التزايد المضطرد في عدد المهاجرين من الدول الإسلامية والعربية منذ أكثر من عقدين أما الاتساع المذكور فيعود بالدرجة الأولى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في هذه الدول على خلفية غياب المساواة والحريات وانتشار الفساد والتسلط السياسي والمالي والإداري والدكتاتوريات القمعية. اخيرا وليس اخرا لابد لنا من الاعتراف بان مشكلة الهجرة التي تتزايد في ايامنا هذه ستشكل في القريب العاجل ازمة حقيقية للبلدان التي كانت مصدرا لتلك الهجرات من حيث فقدانها للكثير من طاقاتها البشرية الشبابية الفاعلة ناهيك عن المشكلات التي ستظهر في دول المهجر ذاتها بسبب عدم التأقلم والانسجام والانصهار او ما شابه من المشكلات التي تواجه المهاجر لاحقا.