ولسنا بحاجة الى مزيد من المشاكل والانقسامات في لبنان التي تهدد كل ما أنجز في السنوات السابقة. وتعيد البلاد إلى أجواء الشحن والتطرف بسبب سوء التصرف أو الانحراف في التصرف أو المكابرة والمغالاة. في مواجهة الأزمات الخاصة والعامة، يحتاج المرء إلى الصفاء الذهني والهدوء والتعقل. والعقلانية هي إحدى أبرز صفات القيادة السياسية وميزاتها.. والعقلانية هي الشجاعة والحكمة هي الشجاعة أيضاً.. وبالتالي لا تظهر شجاعة القائد السياسي فقط برفعه الصوت أو الدخول في مغامرة أو ركوب موجة مواجهة معينة في معركة معينة، بل الشجاعة أولاً هي في الحكمة، في الدراية، في تقدير الموقف السياسي من كل جوانبه، بعيداً عن المكابرة والغرور والتهور، ثم في اتخاذ القرار المناسب ورسم خطة تنفيذه ثم في اعتماد إدارة سليمة للتنفيذ.. وقد يكون القرار أحياناً بعيداً أو أقل حدة، أو ليس على مستوى مزاج الناس وتطلعاتهم، لكن القائد هو المسؤول عن الناس وهو الموجه لهم، ومن الضروري بطبيعة الحال أن يعرف مزاجهم ويراعيه ويواكبه، وأن يعرف كيف يلتقط اللحظة السياسية المواتية لإطلاق موقفه متسلحاً بإرادة الناس وانسجامهم معه وبالتالي باستعدادهم لمواكبته ومشاركته.. ولكن تأتي ظروف أحياناً يكون القائد السياسي يملك فيها الكثير من المعطيات التي لا يلمسها الناس فيضطر إلى اتخاذ مواقف يدركون لاحقاً أنه كان على حق.. وفي التجربة بل في تراكم التجارب، يتحصن هذا القائد بمصداقية كبيرة وثقة الناس، ويصبح مرجعاً موثوقاً، يطمئن الناس إليه وهو يتخذ أصعب القرارات في أصعب اللحظات.. هكذا تبني القيادة السياسية موقعها.. وهكذا تعزز رصيدها.. وهكذا تفرض حضورها.. أما عندما يسود الانفعال والتخبط، والصوت العالي مرافقاً تنازلات وتراجعات وارباكات وخسائر متتالية، فيخسر صاحبه المصداقية وتتراجع ثقة الناس به، ولا يعود قادراً على القيادة!! نعم القيادة مسؤولية.. حسن مسؤولية أولاً وشخصية وإدراك ومعرفة وقدرة على التحليل والمواكبة وشجاعة في الإقدام.. وقيادة الرجال والأمم والشعوب أمانة وشرف.. والذين يتخذون القرار في العالم هم بشر.. يصيبون ويخطئون.. ولكن يتوقف على قرارهم مصير شعوب وأمم، وأمن عالم واستقرار وكرامة الإنسانية.. ومن هذا المنطلق تكون القيادة هماً وجدية استثنائية.. فلا يحق لأحد أن يتبوأ مركز مسؤولية في أي إدارة أو مؤسسة أو دولة أو منظمة أو هيئة وأن يتصرف بلا مبالاة أو بإهمال أو بتسرع وانفعال.. لأن ذلك سيترك أثره السلبي على من يتولى شؤونهم وإدارة مصالحهم.. وفي تجربتي السياسية المتواضعة، أتساءل دائماً: من اتخذ هذا القرار أو ذاك؟؟ كيف اتخذ؟؟ وغالباً ما نكون أمام فاجعة وكارثة فنكتشف ان وراء القرار خبثاً أو مخططاً مشبوهاً أو رداً عليه غير مدروس أو مصالح شخصية أو فئوية أو سياسية أو مالية، انعكست سلباً على أصحابها وعلى الناس.. وبالتالي يبدأ سيل من الأسئلة: ألم يكن بالامكان تدارك تلك النتائج؟؟ ألم يكن ممكناً تجاوز هذه الكارثة أو تلك؟؟؟ تتوالى الأسئلة وتتكاثر، وخلال طرحها تكون متغيرات جوهرية تحدث على خرائط أمم وقارات ومناطق، ومعاناة شعوب كثيرة تتفاقم، إنه التاريخ.. فيه من القادة الموتورين، المكابرين، المغرورين، الانفعاليين، المتسرعين الذين يدمرون أمجاد أسلافهم وإنجازاتهم ومستقبل أوطانهم وشعوبهم، وفيه من القادة المميزين بحكمتهم واستيعابهم للمشاكل والتحديات وشجاعتهم في إطلاق المواقف والمبادرات الانقاذية في اللحظة السياسية المناسبة. وسبب هذا الكلام، هو ما يدور من اتصالات وما يقوم من تحركات لمعالجة ما بدأوا يسمونه «الأزمة السورية» أي الأزمة مع المجتمع الدولي، وما لكل ذلك من انعكاسات على لبنان. لسنا بحاجة إلى عراق جديد.. بغض النظر عن الصيغة، أو الأسلوب الذي يمكن اعتماده مع سوريا وفيها لنكون أمام عراق جديد.. لسنا بحاجة إلى عراق جديد، بمعنى أننا لسنا بحاجة ولا مصلحة لنا في خسارة بلد عربي آخر، لطاقاته وامكاناته وقدراته، ووحدته وأمنه وسلامته واستقراره!! ولسنا بحاجة إلى أزمة مفتوحة مع كل العالم ستنعكس سلباً على سوريا ولبنان وسيستفيد منها كل متربص بالإنجازات وبالوحدة الوطنية هنا وهناك. ولسنا بحاجة الى مزيد من المشاكل والانقسامات في لبنان التي تهدد كل ما أنجز في السنوات السابقة. وتعيد البلاد إلى أجواء الشحن والتطرف بسبب سوء التصرف أو الانحراف في التصرف أو المكابرة والمغالاة. سوريا على مفترق خطير، ولبنان مجدداً على مفترق خطير. في سوريا المطلوب تعاون مع لجنة التحقيق الدولية. وعدم إحراج الدول العربية الشقيقة أو الدول الكبرى الصديقة في العالم التي وقفت مع دمشق وأسقطت من مشروع قرار مجلس الأمن السابق بنوداً كانت أقوى وأقسى مما ورد في الصيغة النهائية، وهي لا تزال تتطلع الى حكمة القيادة ومسؤولياتها في عدم إعطاء ذرائع لأي كان وبالتالي في عدم التصدي للقرار الدولي 1636 الذي أخذ بالإجماع والمزمع تنفيذه والذي أصبح السقف الذي ستكون القرارات اللاحقة فوقه وليس تحته بالتأكيد في حال عدم التعاون. والمطلوب أيضاً تعاون في التحقيق لعدم تعريض العلاقات اللبنانية - السورية إلى مزيد من التصدع والتوتر، وعدم هز الأسس التي يصر عليها اللبنانيون والسوريون وهم يتطلعون إلى علاقات قوية متينة بينهم تحصن بلديهم وتنمي طاقاتهم ومجتمعاتهم. أما في لبنان، فلا يجوز بقاء هذا الوضع على حاله سياسياً. ومسؤولية كل القوى وقياداتها السياسية التفكير بإطلاق مبادرات سياسية تكسر حدة التشنج والانقسام. لا يجوز ولا يمكن لأي طرف مهما كانت ظروفه الأمنية صعبة أن يبقى أسير بيته ومنطقته ومنطقه وحساباته الخاصة وبالتالي لا يكون حوار بين اللبنانيين يؤكد الحد الأدنى من التفاهم، وهم يعيشون حالة قلق. ولا يجوز أن يبقى المواطنون يشعرون وكأنهم متروكون وليس ثمة قيادة ومراجع مسؤولة عنهم، وأن قياداتهم تكتفي بإطلاق التهم وتبادل الشتائم أحياناً، دون أن يتقدم أحد خطوة إلى الأمام باتجاه الآخر وليس مهماً من يقدم قبل الآخر. وليس في ذلك تنازل. بل هنا تكمن الحكمة والشجاعة في القيادة. لابد من كسر حواجز الخوف والقلق وأزمات الثقة. في النهاية للبنانيين وطن واحد هو لبنان فهل يمكن بقاء قادتهم محاصرين في أعالي الجبال والغرف المصفحة والسيارات المصفحة ويشعر الجميع أن لبنان كله ليس مصفحاً في النهاية، وأن مستقبل الجميع ليس مصفحاً أو مضموناً إذا لم يكن تعاون بينهم. نريد الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ولا شيء يتقدم عليها. وهي يجب أن تكون في النهاية عنصر توحيد لا عنصر تفرقة. وواحد من الطرقات الموصلة إليها هو التواصل والحوار بين اللبنانيين كي لا يفاجأوا يوماً بأن وطنهم قد ضاع وضاعت فيه كل الحقائق.