هناك سمة يتميز بها الفنان هي سمة التخيل التي تعد الأولى لولادة فكرة قبل الشروع في رسم لوحة، وهذه الأخيرة أي "اللوحة" تعد تنفيذاً للفكرة أو بمعنى آخر هي المرحلة التقنية والآلية التي تمثل حواراً فلسفياً حسياً استطاع الفنان أن يترجمه إلى رؤى ملموسة تجذب المتلقي، فإذا ما تأملنا أغلب الاتجاهات والتيارات الفنية نجد أنها مهما اختلفت أو تنوعت على مر العصور إلا أنها كانت تحمل مضموناً تعبيرياً حسياً رمزياً لا يخلو من عنصر الأداء التشكيلي في تكوين جمال شكلي يمتع النظر من خلال تحقيق عدة عناصر بنائية متميزة تكسب العمل الفني خاصيته الدينامية كالإيقاع اللوني وجمال انحناءات الخطوط والضوء والظل وترابط العناصر وغيرها من مقومات تكوين العمل الفني، وإذا كان الجمال الشكلي له هذا التأثير في تحقيق الاستمتاع بمشاهدة العمل الفني غير أنه يشترك مع هذا التأثير الحسي عدة تأثيرات وجدانية، فالفن يمثل لغة إنسانية قد لا تكتفي فقط بتميزها الشكلي أو التقني بقدر جاذبيتها للحواس. هناك مواقف عديدة يمر بها الفنان في حياته اليومية تثير مشاعره حتى ولو كانت هذه المواقف بسيطة كعدم إعجابه بشخصية تضايقه في مجال عمله أو العكس، وأيضاً نقاش دار بينه وبين المحيطين به من أفراد أثاروا سروره أو غضبه أو مواقف إنسانية أو اجتماعية وما شابه، هذه المواقف كفيلة بأن تغري الفنان في بعدها التعبيري وتحفزه لإيجاد أفكار تشبع شعوره الباطني واستنباط عناصر فكرية منها، وصولاً إلى صياغة لوحة فنية رمزية تحمل في مضمونها لغة لونية فريدة تمثل ظاهرة إنسانية. نجد مما سبق أن أغلب رواد الفنون التشكيلية لم تخل أعمالهم على مدار حياتهم من هذا الحس كوسيلة تعبيرية شديدة الإيحاء بتنفيذ عمل فني له رؤية تتسق مع موقف أو مواقف مروا بها، وعلى سبيل المثال لا الحصر: الفنان الذي يطلق عليه عبقري الضوء والظل رامبرانت رسم لوحة "حارس الليل" عام 1642 وقد استلهم اللوحة من خلال ما يشاهده في بلدته في إحدى ضواحي هولندا من مواقف اجتماعية فاللوحة تمثل الكابتن "فرانس" والملازم "وليام" في إحدى دورياتهم الأمنية في البلدة، ونجد رامبرانت وقد ركز الضوء على هاتين الشخصيتين بجانب فتاة في مركز اللوحة كما أنه أضاف عازف الطبل الذي كان يستخدم في العصر الذهبي في هولندا في الحروب، مستلهماً هذه اللوحة، التي تعد من أهم الأعمال الفنية العالمية وتعرض في متحف أمستردام حالياً، من بيئته والأشخاص الذين تأثر بانطباعاتهم. كما نجد اللوحة المعروفة للفنان فنسنت فان جوخ التي رسم فيها طبيبه النفسي "جاتشت" عام 1890، وكان سبب رسمها أنه لم يعجب بطبيبه في البداية فكتب لأخيه قائلاً: "انه يعتقد أن الطبيب مريض نفسي مثله ولا يمكن لأعمى أن يقود أعمى".. لكن مع الوقت والعلاج أصبح الطبيب جاتشت صديقاً لفان جوخ مما نتج عنه رسم هذا الأخير في هذه اللوحة التي تعد من أشهر لوحاته. أما الفنان الأميركي جامس ويسلر فقد لفتت انتباهه جلسة أمه عندما كانت تعتني به وتنتظر بشغف رؤية لوحاته الفنية فكان منه أن أخذ إذنها برسم لوحة لها تعبر عن امتنانه لهذه الأم، وقد رسم هذه اللوحة عام 1871 وفاز بالعديد من الجوائز العالمية لهذا العمل الفني القدير الذي يعرض حالياً في متحف "أورساي" بالعاصمة الفرنسية باريس. الفنان الأميركي جرانت وود وجد منزلاً ترجع طريقة بنائه الهندسية إلى طراز قديم ندر أن يجد مثله في عام 1930، فرسم سريعاً على مغلف كان يحمله تخطيطاً للمنزل وقال للناس إنه تصور عقلياً أن هذا المكان سيكون مثالياً إذا عمر بالناس، فاستعان بأخته وطبيب أسنانه ورسمهما أمام المنزل، فحملت اللوحة روح الدعابة لمخطط المنزل على طراز قديم وأمامه أشخاص يبدو من مظهرهم وطريقة لبسهم انتماؤهم لعصر مخالف لعصر المنزل، وحققت اللوحة نجاحاً لافتاً وهي تعرض حالياً في معهد الفنون بمدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية. أما قصة لوحة "الصرخة" للفنان الألماني إدوارد مونش التي رسمت عام 1893، فإنها تعد من أغلى اللوحات في تاريخ الفن، وقد جاءت فكرة تصميمها عندما خربش الفنان في مذكراته حول كيفية "الصرخة" فتذكّر أنه عندما كان يسير في شوارع المدينة في أحد الأيام توقف عن السير ونظر إلى السماء التي كانت معبأة بالغيوم التي حجبت الشمس، فبدت وكأنها محملة بلون الدماء الحمراء كما كان هناك صوت خافت يئن تحت وطأتها صوت وكأنه أتى من تحت المدينة، وشعر الفنان وسط هذا الجو أن هناك شخصا ما يصرخ لشيء ما، ومن هنا ولدت فكرة الصرخة التي كانت منها مجموعة من أربع نسخ أغلبها مقتنيات خاصة. لوحة "ابن الإنسان" للفنان البلجيكي رينيه ماجريت رسمت عام 1946 وتظهر اللوحة رجلاً في معطف يرتدي قبعة ويقف أمام جدار قصير. وراء الجدار تقع سماء ملبدة بالغيوم والبحر تحجب رؤية وجه الرجل، ويتم حجبه من قبل تفاحة خضراء. ماجريت نفسه يفسر اللوحة بقوله لنا: "كل شيء نراه، يخفي شيئاً ونحن نريد أن نرى ما هو مخفي من خلال ما نراه، فدائماً هناك متعة في أن نكتشف مالا نستطيع معرفته ولكننا نراه"، هذا الفكر يدل على مدى استلهام الفنان السريالي من خلال فلسفته الشخصية لرؤية ما حوله من الطبيعة. هناك العديد من اللوحات الأخرى تتمثل في مرآها قصص ملونة في بعدها التعبيري وجاذبيتها للحواس، ومن خلال معرفة كل قصة وراء هذه اللوحات نعثر على مفاتيح من الفرص المتاحة كمصادر استلهام تثير مشاعر الفنان من خلال مواقف يمر بها في حياته اليومية وقد تكون بسيطة لآخرين ولكن في استطاعة الفنان أن يحولها إلى لوحات تتحدث باللون. رينيه ماجريت.. رسمت عام 1946 والدة الفنان وايسلر لوحة الفنان جرانت وود