لا يخلوا أي مجتمع في عالمنا هذا من التطرف وفي كل مجتمع توجد أقلية معينة تؤمن بمبادئ مختلفة عن المجتمع الذي تعيش فيه. وإذا تم التمعن في المجتمعات المتحضرة مثلاً المجتمعات الغربية التي وصلت فيها الحرية الفردية إلى ذروتها سنجد بينها فئة لا تؤمن بمبادئ الحرية المطلقة وبمبادئ أخرى تتعارض مع أفكارها، إلا أن دور هذه الفئة محدود إلى حد أفكارها في المجتمعات المتحضرة فهي لا تهاجم المجتمع المحيط بها لفرض أفكارها وتوجهاتها على الآخرين بالقوة. تحسين نظام التعليم.. إبعاد العقليات المريضة من المدارس الدينية.. وطرد الجمعيات المتورطة في هذا المقال سأتطرق إلى تاريخ التطرف والإرهاب في باكستان وأسباب انضمام المئات من سكان هذه البقعة من العالم إلى الجماعات المتطرفة التي تمثل الوجه الحقيقي للإرهاب في باكستان التي لديها تاريخ طويل من التسامح الديني، فسكان هذه المنطقة كانوا عبارة عن خليط من الديانات المحلية فيما انضم إليها الإسلام ليحتل مكانة راقية بينها. وظل التسامح الديني مستقراً بين أكثر الديانات انتشاراً في القارة الهندية وهي الإسلام والهندوسية في مختلف العصور التي عاشتها المنطقة، في هذا الإطار يشير تاريخ المنطقة إلى أسماء الإمبراطور الثالث في الدولة المورية أشوكا ماوريان والإمبراطور شهنشاه أكبر في العصر المغولي اللذين عودا مجتمعهما على التعايش بسلام دون إثارة الفرقة والطائفية، وحددا عقوبات صارمة لمن يحاول إثارة الفتن الطائفية في عصريهما باستخدام الديانة كأداة. مع أنه كانت هناك فتن وخلافات دينية بين مسلمي القارة الهندية أدت فيما بعد إلى انفصال الهند القديمة إلى دولتي باكستانوالهند في عام 1947م، وهو العام الذي انسحب فيه الاستعمار البريطاني من المنطقة. عاشت القارة الهندية قروناً من الانسجام الديني بين أفراد مجتمع مختلط من مختلف الديانات، إلا أن هذا التوافق تعثر عندما تم استخدام الخلافات الدينية لتحقيق مقاصد سياسية وغايات باستخدام الدين كأداة، وفي نهاية المطاف انقسمت القارة الهندية إلى مناطق ودول متعددة منها باكستانوالهند وبنغلاديش ومنطقة كشمير المتنازع عليها اليوم. وكان أساس انقسام هذه المنطقة هو قيام مجموعات دينية متطرفة مصحوبة بتيار سياسي بتطور موجة من الخلافات الدينية أدت إلى تجمع فئات متطرفة لتقاتل بعضها البعض متمسكة بمبادئها لتفرضها على الآخرين بالقوة. بعد تأسيس باكستان كدولة مستقلة لمسلمي القارة الهندية دخلت إليها ظاهرة التطرف المذهبي، وبدأت بعض المذاهب تؤسس لنفسها مراكز وجماعات تختلف عن الأخرى في بعض مبادئها الاجتماعية والفكرية والتوجهات المذهبية، لتنضم إليها فيما بعد أطراف أجنبية لتستغل التطرف الداخلي في باكستان لتستغله كسلاح فعال، مما تسبب في ظهور جماعات متطرفة تقاتل بعضها البعض لاختلافات طفيفة في المبادئ، لتخرج منها جماعات إرهابية تتحدى كيان الدولة الباكستانية، واختار بعضها مناطق جانبية داخل الأراضي الباكستانية مثل منطقة القبائل الباكستانية الواقعة على الشريط الحدودي الفاصل بين باكستان وأفغانستان، لتنضم إلى مأواها تنظيمها إرهابية أخرى مثل تنظيم القاعدة وغيرها، والتي سرعان ما تحولت إلى تحدٍ اقتصادي وأمني وسياسي يهدد باكستان بأكملها، مما أدى إلى تدخل القوات المسلحة الباكستانية في عام 2014م لتطهير تلك المناطق من الجماعات الإرهابية التي كانت قد تحولت إلى سرطان يحاول الامتداد إلى سائر مساحة باكستان ليسيطر على الحكم تحت مسمى تطبيق الشريعة الإسلامية في بلد هو أصلاً إسلامي. وقد استغلت هذه الجماعات صغار السن في تنفيذ العمليات الإرهابية عن طريق غسل أدمغتهم، كما قامت بقتل المئات من الأبرياء بمن فيهم الأطفال والنساء واستهداف العشرات من المصالح الحكومية عن طريق تنفيذ الهجمات الإرهابية، كما استهدفت العشرات من رجال الأمن الباكستانيين لتفرض أفكارها بالقوة على مجتمع لا يتوافق معها في الرأي. وفي نهاية الأمر أدت تصرفات هذه الفئة الشاذة في أفكارها وطريقة قتالها إلى تشويه صورة مسلمي باكستان، خصوصاً عندما صدرت تصرفات غريبة من مقاتلي هذه الجماعات كجلد النساء في الأسواق العامة بالأحذية دون مراجعة القضاء كطريقة لمكافحة خروج المرأة من بيتها دون محرم، أو باستهداف طالبات المدارس بالطلقات النارية وبتدمير مدارس البنات بالمتفجرات لتقييد المرأة في بيتها. مقابل عدم فرض أي قيود واضحة على الرجال من مقاتلي هذه الجماعات كعدم تعاطي المخدرات أو الاتجار بها وغيرها من التصرفات الشاذة. ويركز خبراء التعليم والمؤسسات الاجتماعية في باكستان في الوقت الحاضر على ضرورة تحسين نظام التعليم، مع مراقبة المدارس الدينية التي توفر التعليم الديني لآلاف الطلاب مجاناً، لكي لا تقوم العقليات المريضة بغرس جذور التطرف والتعصب في عقول أفراد الجيل القادم للحد من تحوله إلى إرهاب في المستقبل. وفي هذا الشأن تقوم السلطات الباكستانية حالياً بتسجيل كافة المدارس الدينية مع إعداد قوائم بالجمعيات الخيرية الأجنبية العاملة في باكستان لطرد المتورطة منها في دعم ما يمكن استخدامه لاحقاً كأداة مذهبية لنشر الفرقة والفتن الطائفية في باكستان، وذلك إلى جانب العمليات العسكرية التي يجريها الجيش الباكستاني وقوى الأمن الباكستانية ضد العقول المريضة. ويرى خبراء باكستان بأن اتخاذ بعض القرارات والخطوات لن يساعد كثيراً في القضاء على ظاهرة التطرف التي تعاني منها منطقة باكستان منذ العقود أو ربما القرون الماضية، إلا أنه يمكن تحسين أداء المراكز الدينية والمؤسسات الاجتماعية بإخضاعها كلياً تحت مراقبة أجهزة الدولة بهدف مراقبة التوجهات التي تغرسها هذه المؤسسات في عقول الجيل الجديد مع متابعة مصادر دخلها جنباً إلى جانب إدخال إصلاحات جديدة في مناهجها التعليمية والتربوية، مع مواصلة الحرب الجارية ضد الإرهاب في باكستان والتي قد حققت نجاحات متواصلة منذ بدايتها في عام 2014م.