في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، أُعلن عن محادثات سلام أولية، تجريها سلطات إسلام أباد، مع حركة طالبان الباكستانية. ويُمكن القول اليوم، إن أية مقاربة متماسكة للمصالحة السياسية مع الدولة يجب أن تبدأ لا بإلقاء طالبان الباكستانية للسلاح فقط، بل كذلك بدخولها في مراجعة شاملة للمقولات والأفكار التي تتبناها، وخاصة لجهة تكفير الدولة والمجتمع، واعتبار الأفراد المدنيين والعسكريين أهدافاً مشروعة للقتل وأشارت التقارير إلى أن هذه المحادثات تدور، بصفة أساسية، حول وضع منطقة وزيرستان الجنوبية. وقد يجري تطويرها لاحقاً بهدف عقد اتفاقية سلام شاملة. وسبق لوزير الداخلية الباكستاني، رحمن مالك، أن صرح، في 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بأن على حركة طالبان إلقاء السلاح قبل كل شيء، إذا كانت راغبة فعلاً في إجراء محادثات سلام. وقبل يوم واحد على تصريحات مالك، كانت صحيفة "واشنطن بوست"، قد ذكرت أنه خلال بعض المقابلات، قال سياسيون ومسؤولون أمنيون، إن باكستان تعتبر حركة طالبان الباكستانية مفتتة، بما يكفي لتكون مستعدة لاتفاقية سلام، يرعاها وسطاء من شيوخ القبائل أو علماء الدين. ورأت الصحيفة بأن عدداً من محاولات الحكومة الباكستانية لتحقيق السلام مع الجماعات المسلحة، يقدم سبباً كافياً للشك في جدوى أية مباحثات جديدة. ونقلت "واشنطن بوست" عن محللين قولهم إن اتفاق العام 2006 في شمال وزيرستان ساعد على تكوين ملاذ آمن، تعمل في ظله الآن جماعات مسلحة مختلفة. وخارج الإطار الوطني الباكستاني، تتجسد المخاطر الماثلة في الدعم الذي قد تتلقاه الجماعات العنفية في المنطقة من قبل الجماعات المسلحة الباكستانية، إن على مستوى التدريب أو التسليح، خاصة في ظل الامتدادات البحرية الشاسعة على بحر العرب، وكثافة التفاعلات والحركة اليومية بين باكستان ومحيطها المجاور، بما في ذلك المحيط الخليجي. ويمكن القول مبدئياً، إن تركز المعارك الكبيرة في وزيرستان ووادي سوات، وليس في إقليم بلوشستان، يقلل من حدة انعكاسها على البيئة الخليجية. في المقابل، فإن انتقال العنف إلى كراتشي، واتساع نطاقه في إقليم السند عامة، يجعل الخليج في مواجهة مباشرة مع الحدث الباكستاني، وذلك بمعيار الامتداد الجغرافي، وأمن الممرات البحرية، والتفاعل التجاري، الذي يتركز أساساً مع هذا الإقليم، أو يمر عبر بوابته. وتُعد باكستان دولة محورية في هذه المنطقة بالمعايير الديموغرافية والاقتصادية والأمنية. ووفقاً لمؤشرات العام 2011، يبلغ عدد سكان باكستان 187.3 مليون نسمة. وهي تقع في المرتبة السادسة عالمياً على هذا الصعيد، بعد البرازيل (203.4 ملايين)، وقبل بنغلاديش (158.5 مليونا). ووفقاً لمؤشرات العام ذاته، فإن أكثر من 35% من سكان البلاد هم دون الخامسة عشرة من العمر. وفي العام 2010، بلغ الناتج القومي الإجمالي لباكستان 464.9 مليار دولار، محتلة بذلك المرتبة 28 عالمياً. وحققت باكستان في العام ذاته نمواً بلغ 4.8%، على الرغم من تداعيات الأزمة المالية العالمية. وبالعودة للمقاربة الخاصة بوضع طالبان الباكستانية، فقد بدأ ظهور مسمى هذه الحركة، على نطاق أوسع، في الثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2007، حيث أشارت وسائل الإعلام يومها إلى انضواء خمس مجموعات مسلحة تحت هذا الاسم في مقاطعة مهمند القبلية. وبعد ذلك، أعلن رسمياً عن تشكيل حركة طالبان باكستان في 14 كانون الأول من ذات العام. وفي الخامس والعشرين من آب/ أغسطس 2008، حظرت إسلام أباد رسمياً حركة طالبان الباكستانية، وصنفتها باعتبارها تنظيماً إرهابياً. ومنذ بضع سنوات، بدت هذه الحركة صاحبة الحضور الأبرز في مشهد "الاشتباك" الباكستاني. وهي قد دخلت في حرب يومية مع الدولة، على امتداد رقعة جغرافية كبيرة متاخمة لأفغانستان، التي تمثل بيت القصيد بالنسبة لكثير مما يدور هناك. بيد أن هذا هو الوجه الأكثر بروزاً وحسب من الصورة، أو على الأقل هو كذلك في الإعلام الخارجي. إلا أن هناك أبعاداً أخرى للمشهد يتحاشى البعض الحديث عنها، كلّ لأسبابه الخاصة. هذه الأبعاد تتمثل في الاستهداف المنهجي لمؤسسات الدولة الباكستانية، التي تواجه في الوقت ذاته خطراً متنامياً من الهند. وتتمثل هذه الأبعاد المغيبة كذلك في عمليات القتل الجماعي الواسع النطاق للمدنيين الباكستانيين، إن على خلفية ولائهم السياسي أو انتمائهم الطائفي. وتشير تقديرات أجهزة الأمن المحلية إلى أن عدد عناصر طالبان الباكستانية، المتمركزين في وادي سوات يقدرون بنحو 5000 عنصر. وهي تتعاون مع تنظيمات مسلحة مثل "لشكر طيبة" و"جيش محمد".أما مسلحو طالبان في وزيرستان فيبلغ عددهم أضعاف ذلك. وقد تمكنت طالبان باكستان من بناء تحالفات مع فصائل راديكالية خارج مناطق البشتون، وخاصة في إقليم البنجاب، الذي يُعد أكبر أقاليم البلاد. وقد سمحت لها هذه التحالفات بتوسيع رقعة عملياتها الدموية. وعلى الرغم من ذلك، لا تتمتع هذه الحركة بأية شعبية إن في هذا الإقليم، أو في إقليم السند المجاور والذي يُعد هو الآخر إقليماً رئيسياً، حيث تمثل عاصمته كراتشي، الواقعة على بحر العرب، العاصمة التجارية لباكستان. وفي المجمل، يُمكن النظر إلى حركة طالبان باكستان على أنها حركة مناطقية، تتركز في وزيرستان، وبدرجة أقل كثيراً في وادي سوات. ولا يكاد حضورها يذكر في أقاليم البلاد الرئيسية، كالسند والبنجاب، بل وحتى إقليم بلوشستان، المتداخل مع وزيرستان، بفعل العاملين الأفغاني والإيراني، وحيث تمثل قندهار المجاورة معقل طالبان الأفغانية، وتضم زاهدان - المجاورة أيضاً في الشرق الإيراني- مركز المجموعات الإيرانية المسلحة، المدعومة طالبانياً. بيد أن القول بالطابع المناطقي لطالبان الباكستانية لا يعني، بحال من الأحوال، قلة في تعدادها، فوزيرستان وحدها تحوي نحو مليون ومائتي ألف نسمة، غالبيتهم متعاطفون معها ، لاعتبارات عرقية وقبلية، فضلاً عن اعتبارات الوضع الأفغاني، والعوامل المعيشية والاقتصادية الضاغطة. إن غياب الطابع الوطني الجامع عن طالبان باكستان لا يمثل المعضلة الوحيدة لهذه الحركة، فإحدى إشكالياتها الكبرى تتمثل كذلك في نهجها المدمر لمقومات الدولة الباكستانية، إن من ناحية خروجها عن شرعية الدولة أو استهدافها للمؤسسات والدائر الرسمية، المدنية والأمنية. واعتبارها كل ما يمت بصلة للدولة هدفاً مشروعاً للتدمير. وعلى صعيد ثالث، تمثلت إحدى الإشكالات الكبرى التي تؤخذ على طالبان الباكستانية في نهجها الطائفي، الإقصائي والدموي، الذي ينظر إلى أبناء طوائف محددة باعتبارهم أهدافاً مشروعة للقتل. وبطبيعة الحال، فإن العنف الطائفي في باكستان ليس بالأمر الجديد، لكنه كان ولا يزال محصوراً في جماعات تكفيرية، تمثل طالبان الباكستانية وجهها الأبرز في هذه المرحلة. وبصورة أكثر تحديداً، فإن طالبان تسير في هذا الطريق على نهج تنظيمات من أمثال جيش جانجوي المتطرف، الذي تفيد الإحصاءات الرسمية بتورطه في 350 عملية اغتيال طائفي بين عامي 1996 – 2001. وكان هذا التنظيم يجهز عناصره في معسكرات تدريب أقيمت في أفغانستان إبان حكم حركة طالبان الأفغانية. وقد استهدف العنف الطائفي الذي قام به جيش جانجوي، وتنظيمات أخرى مساندة له، قيادات كبيرة في الجيش والدولة الباكستانية، وشخصيات دينية ومدنية مرموقة. ويُمكن القول اليوم، إن أية مقاربة متماسكة للمصالحة السياسية مع الدولة يجب أن تبدأ لا بإلقاء طالبان الباكستانية للسلاح فقط، بل كذلك بدخولها في مراجعة شاملة للمقولات والأفكار التي تتبناها، وخاصة لجهة تكفير الدولة والمجتمع، واعتبار الأفراد المدنيين والعسكريين أهدافاً مشروعة للقتل، لمجرد انتسابهم للأجهزة الرسمية، أو إيمانهم برؤية فكرية أو سياسية متباينة. كذلك ، فإن أحداً لا يُمكنه القبول باستمرار النهج الطائفي الاقصائي، الذي تمارسه طالبان الباكستانية. والذي تترجمه باستهداف دموي ممنهج للمدنيين الآمنين، في السند والبنجاب، ومناطق أخرى من البلاد. وإذا أرادت طالبان باكستان أن تخرج من الإطار المناطقي والعرقي الضيق، إلى حيث الفضاء الوطني الأرحب، فعليها الاعتراف بتنوّع هذا الفضاء. إن باكستان المهابة لم تصنعها منطقة داخلية أو ساحلية معينة، ولم تبنها مجموعة ثقافية أو عرقية محددة، بل صنعها الباكستانيون جميعاً. وفي المقدمة منهم قادتها التاريخيون، بدءاً من محمد علي جناح، الذي قاد مسيرة الكفاح المظفر لمسلمي شبه القارة الهندية. إن الدول الإسلامية، معنية بدعم أي مشروع سياسي للمصالحة في باكستان، إذا كان هذا المشروع ينطلق من أرضية صلبة، ويعبر عن خيار استراتيجي للأطراف الداخلة فيه. وعلى الدول الإسلامية أن تنظر إلى باكستان باعتبارها حجر زاوية في الاستقرار الإقليمي، وثقلاً جيوسياسياً لا غنى عنه. كذلك، فإن المجتمع الدولي لا يُمكنه الوصول إلى مقاربة متماسكة لأمن هذا الجزء من العالم، كما للأمن العالمي عامة، دون دعم مقومات الاستقرار السياسي والاجتماعي في باكستان، وتأكيد محورية دورها الإقليمي.