لا يوجد في تقديري تقييم لنتائج السياسات الأمريكية في العراق أفضل مما حملته تلك العبارة المقتضبة التي اختصر بها أحد كتاب الرأي الأمريكيين سياسة بلاده في العراق، وذلك عندما قدم تهنئته (متهكماً) للرئيس بوش بنجاحه غير المسبوق بإقامة جمهورية إسلامية في العراق على النمط الثوري الإيراني، الأمر الذي لم يكن حتى من قبيل المفكر فيه إبان عهد البعث العراقي السابق الذي يتفاخر الساسة الأمريكان بأنهم أسقطوا أحد أكبر قلاع الشر في منطقة الشرق الأوسط باسقاطهم إياه في التاسع من نيسان عام 2003م. عندما كان شعار«تصدير الثورة» قائماً على أشده في أجندة السياسة الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد وضعت شعاراً معاكساً له هو شعار مكافحة ذلك التصدير للثورة الذي يراد منه تدشين نمط من الإسلام السياسي يكون قاعدة للتصدي للمصالح الأمريكية -وفقاً لأدبيات ذلك الشعار-، وبالتالي فقد كانت أيديولوجية مكافحة هذا الهدف يقع في أعلى سلم أولويات السياسة الأمريكية إبان تلك الحقبة، والتي كان من أولى شروط تفعيله أن عقدت الولاياتالمتحدةالأمريكيةحلفاً وثيقاً مع حزب البعث المنحل يقوم على إمداده بالسلاح والعتاد والتغاضي بل والمساعدة على تدشين أسوأ نموذج من الإستبداد الشوفيني على مر التاريخ العربي والذي علا واستكبر واستدام على أشلاء ضحاياه من مواطنيه ومجاوريه على السواء، فكانت الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات عجاف أتت على أخضر ويابس الشعبين العراقي والإيراني على السواء، إذ قامت تلك الحرب على آلية إستنزافية لكلا الطرفين بدعم أمريكي غير محدود هدف في النهاية إلى كسر شوكة كلا الفريقين، وبنفس الوقت إضعاف وإماتة شعار تصدير الثورة في النهاية الذي كانت الولاياتالمتحدة تراه خطراً ماحقاً على مصالحها في الشرق الأوسط. -مع إنتهاء الحرب العراقية الإيرانية وما أعقبها من حماقات صدامية بالتفاف النظام العراقي على جيرانه بداية بالكويت، وما تلا ذلك من إخراج للقوات العراقية من ذلك البلد، بدا للولايات المتحدةالأمريكية وكأن خطر إنبعاث نظام أصولي متطرف في المنطقة قد تصرمت مغذياته الأيديولوجية -على الأقل في الآني والمستقبل المنظور- وبالتالي فلم يعد من اللائق أن يظل أمر مكافحة شعار تصدير الثورة قائماً على أولويات الأجندة الأمريكية في المنطقة. -مع قيام فتية القاعدة بدك شواهد الحضارة الأمريكية المعاصرة في نيويورك في الحادي عشر من أيلول عام 2001م بدا للولايات المتحدةالأمريكية وكأن الخطر في منطقة الشرق الأوسط كامن لا في نظام أصولي ممتطيٍ ظهر حصان سلطة إستبدادية ما هنا أو هناك فقط، بل يكمن في إستشراء وتأصل الأصولية بمختلف توجهاتها المذهبية على مستوى القاعدة -وفقاً للمنظور الأمريكي -وبالتالي فالدواء يكمن -وفقاً لهذه الرؤية الأمريكية لمشاكل المنطقة -بنشر الديمقراطية بين شعوب المنطقة ولو عن طريق فرضها عندما لا تنجح أدبيات التبشير الأمريكي بها، وكان الطريق إلى ذلك إفتعال أزمة أسلحة الدمار الشامل العراقية وصولاً إلى إسقاط النظام العراقي الإستبدادي للبدء من ثم ومن هناك بمخطط نشر الديمقراطية في دول المنطقة عن طريق إقامة نظام حكم ديمقراطي منتخب بطريق الإقتراع الحر المباشر. هنا بالضبط يكمن خطأ التقدير الأمريكي للعلاج المطلوب تجاه التطرف، فهي إتخذت قرار نشر الديمقراطية كما تدعي من زاوية أنها -أي الديمقراطية -لا تعدو أن تكون صناديق إقتراع وتنظيم إقتراع شعبي حر مباشر من خلالها فقط وبعدها تنتشر الديمقراطية في أعتى البلاد تطرفاً وتشدداً وإستبداداً كما تنتشر النار في الهشيم، إنها لا تعدو-وفقاً لهذه الرؤية الساذجة -أن تكون وصفة سحرية على طريقة علاء الدين ومصباحه لتنتشر الديمقراطية ويهل معها التسامح والتعددية وكل القيم الليبرالية الغربية وتنمحي معها كل آثار ومقومات الأصولية والتطرف بدون الحاجة إلى تجذير تلك القيم وتبيئتها داخل النسيج الإجتماعي المراد دمقرطته!!! الخطأ كل الخطأ كان نابعاً من تصور ساذج كهذا، إذ أن الديمقراطية ليست في الحقيقة صناديق إقتراع وتنظيم إنتخابات فقط، فهذه لا تعدو أن تكون وسائل إجرائية فقط لتنظيم الديمقراطية، إن الحقيقة الغائبة عن مجالات التنظير الأمريكي أن الديمقراطية نظام حياة وثقافة مجتمع قبل أن تكون صناديق إقتراع وإنتخابات، ولذا فإن إنتاج أنظمة بواسطة الإقتراع المباشر في أنظمة لم تتوطد وتتجذر فيها ثقافة الديمقراطية القائمة أساساً على القيم الليبرالية لا تعدو أن تكون تغييراً في طريقة ممارسة الإستبداد فقط، يتم فيها نقل ممارستها من قبل حاكم فرد إلى ممارستها بواسطة مجتمع أو أكثرية مجتمع وهي أخطر وأمضى سلاحاً من ممارستها فردياً، إذ يتحول الطغيان بواسطتها من ممارسة فردية ينظر إليها على أنها غاصبة للسلطة إلى ممارسة مقننة ومشرعنة بواسطة آليات الديمقراطية نفسها، وهي الإستبدادية المجتمعية التي نقدها الفيلسوف الإغريقي الشهير«سقراط» في الممارسة الديمقراطية الأثنية في وقت أفول نجمها عندما أشار إليها بأن«لا شيء أشد سخرية من ديمقراطية تقودها وتتزعمها الجماهير التي تسوقها العاطفة وتعتمد على الإختيار المتهور المندفع». -لا يمكن في تقديري تدشين الديمقراطية في مجتمع يؤسس علاقاته الإجتماعية على أسس طائفية يتكور حول مرجعياتها ويقيم علاقاته مع معايشيه وفقاً لأدبياتها، لا يمكن إطلاقاً أن تنجح الديمقراطية في مجتمعات ما قبل الليبرالية، لا بد قبل زرع الديمقراطية في مجتمع ما أن تتم تهيئة الأرضية المجتمعية للقبول بنتائجها والتعامل مع معطياتها ولا يتم ذلك إلا في مجتمع ليبرالي ليبرالية حقيقية، بحيث يتم تأسيس العلاقات بين أفراده على أسس المواطنة البعيدة كل البعد عن تأسيسها وفق إيحاءات طائفية مذهبية كانت أم دينية أم عرقية، ولهذه الأسباب فقد كان المشهد الإنتخابي العراقي قبيل الإنتخابات البرلمانية الأخيرة متمحوراً حول الطائفية بكل تناقضاتها، إذ قُدمت القوائم الإنتخابية على أساس طائفي مذهبي بحت، كما اختار الناخبون نوابهم وفق دوافع ومخفزات طائفية وتحت تأثير التزكيات المرجعية، وبالتالي فلا يمكن أن يُتوقع من وراء هذه الخلطة الطائفية التي تقبع خلف قبة البرلمان المنتخب بواسطة الآليات الديمقراطية إلا مزيداً من تكريس إستبدادية كانت قائمة من قبل ولكن هذه المرة بواسطة صناديق الإقتراع نفسها، وهكذا ستجد الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها أمام مشهد غاية في الطرافة والعجب، إذ أن ما كافحت من أجل إبعاد شبح ظله عن المنطقة سيكون موجوداً بالوسائل الديمقراطية الغربية التي سعت الولاياتالمتحدة إلى زرعها في مجتمع طائفي بغية مكافحة الإرهاب، وبالتالي ستجد أن لا ممكنات عملية أمامها سوى التحالف مع قوى إسلامية أخف راديكالية من غيرها على الأقل للخروج من عنق الزجاجة، إن محاولة تبيئة الديمقراطية في مجتمع غير ليبرالي محاولة محكوم عليها بالفشل مسبقاً، إذ أن المسافة بين مجتمعات ما قبل الليبرالية والديمقراطية مسافة سنة ضوئية وهي الحقيقة التي لم يستوعبها المحافظون الجدد حين زعموا أنهم قادرون على إحراق مراحل التاريخ بدءاً من العراق.