قد لا تكون الحروب والتوتر وحمى الإرهاب قد ألقت بظلالها على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية فحسب، بل ربما طال التأثير طباع البشر لتعيدها إلى التوحش ثانية، خصوصاً في هذا الوقت الذي جعلت الطفرة في وسائل الاعلام من السهل على من يجلس على أريكته في طوكيو أن يكون في قلب الحدث لحظة وقوعه في قلب بغداد بالصوت والصورة وليشارك الحاضرين هناك التوتر والتقزز والفزع من المشاهد التي تنقلها له شاشة التلفاز أو الكمبيوتر، ولأن العالم بأسره قد اعتاد رائحة البارود بسبب الحروب وهجمات الإرهاب التي لوثت كل بقاعه بعد الحادي عشر من سبتمبر فمن الطبيعي أن يعتاد أيضاً مشاهد الدم والأشلاء ويتخلص من التقزز الذي يميز الفطرة الإنسانية ضد كل ما هو بشع، الدليل الأبرز على توحش عين المشاهد توجه السينما العالمية ممثلة في هوليوود نحو إرضاء ذائقة الجمهور الذي لم تعد تستهويه كثيرا اللقطات الجنسية الساخنة بقدر ما يستهويه مقطع من الاكشن العنيف تهشم فيه الوجوه بالمطارق أو يستخرج دماغ الإنسان منه وهو على قيد الحياة كما في فيلم (هنيبل)، هذا التوجه المثير للغثيان هو ما ينحو تجاهه الانتاج السينمائي العالمي الآن، فلم تعد الأفلام المنتجة حديثاً تراعي الإحساس المرهف للمشاهد لأنه ببساطة لم يعد لديه ذلك الاحساس ولا تلك الرهافة بل عطش للعنف وبشاعة تغلف بوصف الاثارة والحركة! لم يكن فيلماً واحداً أو ثلاثة أو عشرة أو مئة هي ما يدعو الى ذلك الاستنتاج بل حاول أن تلاحظ ما شاهدته من أفلام في الفترة الأخيرة مما يوصف بأفلام الحركة والاثارة وقارن بينها وبين ما كنت تشاهده من قبل من أفلام تراعي احاسيس ومشاعر الجمهور.. لنأخذ على سبيل المثال فيلم (بيت الشمع) الذي يوصف ب (فيلم رعب وإثارة) وهو من انتاج هذا العام 2005، هذا العمل يحمل من البشاعة ما يصعب وصفه: سلخ وجوه خياطة لجلد بشري - بكل تفاصيل السحب والشد والغرز - إذابة الشمع على لحوم البشر، قطع للأصابع بمقص الحديد، صراصير تخرج من أدمغة بشرية وفظائع أخرى لا تأتي إلا من كاتب إما أن يكون مهووساً بالبشاعة أو منصاعا بشكل أعمى لطلب السوق والمستهلك، وإذا سلمنا بميكانيكية العرض والطلب وأن هوليوود تستجيب لرغبات المشاهدين لأنه الربح المادي هو الزيت الذي يحركها بالمقام الأول فسنلاحظ بوضوح مدى التوحش الذي أصاب المشاهد من خلال ما يطرح في أفلام تستهوي ذائقته. ولم يكن الوعد الذي قطعته مجموعة موشن بيكتشر اسوسييشن اوف امريكا وهي أكبر استوديوهات في هوليوود بوضع آليات للسيطرة على موجة العنف المتفاقمة في الأعمال السينمائية الا استجابة للكيل الذي طفح بما يعرض، واذا علمنا بأن هذا الوعد الذي قطعته المجموعة كان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الذي فتح العالم على بوابة الجحيم طوال الأربعة أعوام الماضية كانت تتنافس خلالها الفضائيات لنقل تفاصيل لا ينقصها سوى الرائحة الى كل مشاهدي العالم فلنا أن نتخيل ما عليه الحال في الوقت الحاضر بعد كل هذا الاحتقان. الأمر الأفظع والأكثر رعبا في هذا السياق هو أن تقريراً صدر من اللجنة الفدرالية الأمريكية للتجارة وأوردته قناة بي بي سي قد ذكر أن الغالبية العظمى من الأفلام والتسجيلات الموسيقية وألعاب الفيديو تعتبر غير صالحة للأطفال والقصّر ممن هم دون السابعة عشرة من العمر كما استنتج التقرير أن نحو 80٪ من الأفلام المخصصة لمن هم أكبر من 17 عاماً تسوق لمن هم أقل من هذا العمر، كما أن نحو 27 في المئة من الموسيقى تحمل مضامين تحوي العنف وموجهة للمراهقين، الى جانب نحو 70٪ من الألعاب الإلكترونية المتضمنة للعنف والتي توجه لسوق الأطفال ما يعني أننا مقبلون على مجتمعات أكثر عنفاً لتتحقق نبوءة علماء التحليل النفسي التي تقول بأن قشرة المدنية التي نعيش فوقها سرعان ما تنشق فتهوي الى ما يشبه مجتمع الغاب لكن بشكل أسوأ لأننا في ذلك الحين سنسخر امكانيات العلم الحديث للدمار والهلاك!!