في البدء.. كان السؤال: لماذا كل من كتب أو عمل في جريدة الرياض لا يتحمل ولا يطيق الانفصال والابتعاد عنها بأي شكل؟.. وقبل أن أتقلب في مباهج الإجابة.. أعترف بأن هذا التناول في لقاء هذا الأسبوع إنما هو إجازة واستراحة من تلك الأفكار والمضامين التي تضج بالمعاناة والعذاب وباليأس والإحباط.. وخذوا مثالاً صارخاً على ذلك: حادثة التفجير التي حصلت في مسجد قوات الطوارئ في عسير ، وخذوا كذلك ما يقوم به الملاحدة الجدد في قنوات التواصل من تفتيت القيم والأخلاق واغتيال الإيمان في نفوس الشبان. أعود إلى أحضان إجازتي واستراحتي، وأشير إلى أن صحيفة الرياض وبشهادة النبلاء كافتهم تَنْمازُ بالتاريخ الثقافي العريق الضارب بجذوره في تحولات الوطن، وبجدية الطرح والتناول في الأعمال الصحافية البحتة، وبنخبوية الأفكار والمقالات في الأسلوب وطريقة الأداء، وبالتثبت والرصانة في تسجيل الأحداث ونقل الأخبار، ثم بتلك الحميمية والترابط في المسألة الإدارية والتكوين الداخلي وآلية التنفيذ. أما مسألة الحقوق والواجبات وأسلوب الأخذ والعطاء مع العاملين بفئاتهم كافتها فتلك مدرسة نادرة تضرب بها الأمثال والنماذج.. أسارع وأسجل أنني لا أقارن بذلك بين هذه الصحيفة وأي صحيفة أخرى، غير أنني أثبت أن ما سبق يتجلى بوضوح وعراقة في التركيبة الإدارية والفنية والوعي المؤسساتي فيها، ويتعامد الانطباع والإيحاء مع الحقيقة والواقع، وأجد نفسي في حِلٍّ من تبعات المنطوق والمفهوم، وماذا يعني هذا أو ذاك . ومن أجل أن أقدم البرهان الكبير على تلك الصلة المذهلة، وذلك الانتماء الصادق بين الرياض ومن ينتسب إليها سوف أشير إلى ثلاثة نماذج من رجال الإدارة والفكر والثقافة والوعي في هذه الجريدة: أولا: صاحب السعادة الأستاذ الجليل تركي بن عبدالله السديري المشرف العام على مؤسسة اليمامة الصحافية، الذي بدأ في شبابه الأول كاتباً رياضياً ذا أسلوب أدبي جذاب، ثم تنوعت كتاباته وهو يمخر عباب التحرير في هذه الجريدة حتى تَسَنَّمَ رئاسة التحرير في أواسط عام 1394، واستمر في مهمته تلك دون كلل أو ملل حتى الخامس عشر من شوال من هذا العام 1436.. نعم.. ترك رئاسة التحرير غير أنه أمسى قريباً من معاهد شبابه وفنه وعشقه.. ولقد استحق بعد هذه الفترة العملية والإبداعية التي رافق فيها منسوبيه بالإدارة الراقية والأخلاق العالية، وصافح قرّاءه وجمهوره في زاويته المتفوقة (لقاء) كل يوم، استحق أن يكون عميد الصحافيين وعمدة الكتّاب وملك الصحافة. ثانيا: سعادة المبدع الكبير الأستاذ راشد فهد الراشد، رئيس التحرير، الذي أعرفه كما لم يعرفه أحد مثلي.. ولولا خشيتي من أن يتحول هذا التناول المنطقي إلى سيرة ذاتية تعنيني شخصياً لسجلت حقائق وتجارب مع هذا الإنسان النبيل تجعل من يطلع عليها يخجل من نفسه ويتوارى بسيرته. والذي أستطيع أن أسجله في سياق هذا اللقاء هو أن هذا الرجل منذ أن بدأ مسيرته الصحافية شاباً يافعاً قبل ما يقارب أربعين عاماً وهو أنموذج باذخ آسر، وقدوة استثنائية في الفكر والمواقف والأسلوب وطريقة التناول والأداء سواءٌ في كتابته الأدبية الخالصة وفي تحقيقاته وريبورتاجاته الصحافية، ولئلا أجازف بسوء تقديري لإنجاز هذا الإنسان، أُورِدُ في ما يأتي جزءاً مما كتبه رداً على أحد المسطحين حول عبارة (أعذب الشعر أكذبه) بتاريخ 1393/8/8ه: (يا سيدي ليس في هذا الكون إنسان يملك أن يملي رأيه ببساطة، ويفرضه ببساطة، ويعطيه - أيضاً ببساطة. إن الشعر يا سيدي لم يعد ترفاً.. ولم يعد بخوراً.. ولم يعد لكل شاعر جني.. صار لكل شاعر قضية. ه) .. نعم هذا هو الأستاذ المعلم راشد فهد الراشد. ثالثا: سعادة الشاعر الناقد المحلل الأدبي الأستاذ سعد بن عبدالله الحميدين.. الذي أشرف على الملحق الأدبي في هذه الجريدة مدة تقترب من ثمانية وثلاثين عاما.. استقال من إدارة التحريرالثقافي الرسمي، غير أنه بقي ملتزماً بكتابة زاويته الثقافية أسبوعياً، ويثري الملحق بكتاباته وإسهاماته وبقصائده التي نقرأُها تباعاً.. والشيء الذي يملأُنا بالغبطة هو أعماله ومجموعاته الشعرية التي أثرى بها الساحة الأدبية. وأنا هنا عن قصد وتصميم لا أتقدم بالتهنئة والمباركة لهؤلاء الأفذاذ بما وصلوا إليه وحققوه، لسببين كبيرين: الأول: أن هذه النماذج المثالية في تقديري أكبر في ذواتهم من كل المناصب والمراتب. الآخر: أننا نحن في صحيفة الرياض من يستحق الفرح والغبطة والتهنئة والمباركة بمثل هؤلاء القياديين الذين قَلَّ أن يجود الزمان بمثلهم. إنهم الآن.. يعلموننا كيف يمكن أن يتحول مكان الإبداع والعمل والإنتاج والإضافة إلى جنة يستحيل الابتعاد عنها مهما كان مقابل ذلك ، وذلك هو المعنى الحقيقي لصادق التضحية وعظيم الانتماء.