مستبشرين ضاحكين، يضربون بأرجلهم في العراء، وتأخذهم ابتساماتهم للسماء بجناحين من وهم.. هو الوهم الجميل، ما يمنحك إياه "القاتل" الصامت، ذلك الذي نعانقه صباحاً ومساء، ونحافظ عليه – في أحايين كثيرة – أكثر من اعتنائنا بذواتنا. نعتقد أن هذا "القاتل" يمنحنا البهجة والحياة، ويوسع لنا من هامش حيزنا الضيق، ويخلق لنا عوالم لا نستطيع الوصول إليها لولاه!. هو اغتباط ب"الجهل"، أن ما نعانقه أكثر من أحبتنا وأبنائنا، ليس كما نظنه ونعتقد بسذاجة من كونه مصدر "السرور"، ليس إلا مُبعد الأحباب، وسالب اللذة الحقيقية في الحياة، ولا يعدو كونه لوحاً بزجاجة باردة بليدة، شمسها تنطفئ ما أن تنتهي ما في قلبها من طاقة كهربائية محدودة. "القاتل" يا سادة، هو تلك الهواتف المحمولة، التي أفقدتنا حميمة الروح والجسد، وحولت حيواتنا لمجال افتراضي، لا وجود حقيقياً له. بات الواحد منا الآن يتضاحك مع شخصية بعيدة وهمية لا يراها، قد تكون مزيفة، يرسل لها لساعات الوجوه الصفراء والزهور المتحجرة، متناسياً أن الحب يكمن في حضن معشوقته، وابتسامة طفلته، وفنجان القهوة من أمه، ولمسة حنونة من أخته، وعناق الشوق من أخيه. الهواتف المحمولة، خصوصاً مع الاستخدام السيئ، تحولت قاتلاً حقيقياً، سلبتنا أرواحنا، وأصابتنا بأمراض جسدية وآلام في مفاصل الكتف واليد والرقبة، وجعلت رؤوسنا منحنية إلى الأسفل، وظهورنا مثقلة بوزر البحث عن أحرف الكيبورد اللعين، وكأننا في علاقة بين عبد وسيد تنحني له الرقاب!. فضلاً عن قتلها لعقولنا التي سطحتها وجعلتها أشبه بصحراء جرذاء لا علم فيها. "الشاشات الصغيرة البليدة" هي أبرز تمظهر لما حذر منه منذ سنوات الفيلسوف الفرنسي روجيس دوبريه، عندما تحدث عن "الميديا لوجيا" بوصفها أدلوجة حاكمة على العقول ومعلبة لأنماط السلوك، متوقفاً عند قدرتها الهائلة على تدجين الأفراد في المجتمعات وتحويلهم لنسخ متشابهة، تحت تأثير خطاب موجه ومحدد، لا يراد ل"القطيع" أن يخرج عن حيزه. الفيلسوف الألماني مارتين هيدغر، وفي رسائله إلى الفيلسوفة حنة أرندت، كتب لها العام 1972 التالي: "في عصر اعلام تبدأ مؤهلات تعلم الفلسفة في الانمحاء". هذه النبوءة من قامة علمية كهيدغر، مردها ما تحدثه "الميديا" من اختزال للمفاهيم العلمية وعلاقات الأفراد في المجتمع مع المعرفة والتعلم، وهو الاختزال "المُخل" القائم على "تسليع المعارف" ومحاولة تسويقها وكأنها وجبات طعام سريعة تباع في الأكشاك أمام صالات السينما!. هنالك مسألة أخرى، تتعلق ب"وهم المدنية". فأكثر المستخدمين للتقنية الحديثة، يعتقدون أنهم كلما حازوا أحدث الهواتف النقالة، ازدادوا مدنية وحداثة. غير متنبهين أن للمدنية اشتراطاتها المبنية في الأساس على رؤية فلسفية كونية، ولذا فإن هيدغر ذهب لهجاء "المدينة" بمعناها المادي الأجوف، قائلاً " في المدن، يمكننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، وهذا هو الطريق المؤكد للسقوط بسرعة في هاوية النسيان ". النسيان المشار إليه أعلاه، هو بالتحديد ما يعتقد الكثيريون من أنه "الخلود"، حينما يضغطون على زر التصوير بكاميراتهم، موثقين اللحظة، ومخبئين إياها في ذاكرة من بلاستيك، غير واعين أننا عندما نعيش اللحظة ونستمتع بها في آنها، ونستغرق في تفاصيلها، هو ما يمنحها خلوداً دائماً، لا عدسات الكاميرات العمياء!. هذي حيواتنا، سلبها منا "القاتل" الصامت، وساعدناه نحن على الإجهاز عليها، عندما استسلمنا لبريق معدنه الكاذب.