تُشير التقديرات الرسمية لوزارة التعليم إلى أنَّ أكثر من (300) ألف طالب وطالبة في مختلف مراحل التعليم العام الابتدائي والمتوسط والثانوي، لم يتجاوزوا السنة الدراسية لعام 2015م بنجاح، وهو ما يُمثِّل هدراً كمياً هائلاً بحسب معايير التعليم العالمية، وبحسب المعدل العالمي للتكلفة المالية، التي تدفعها الدول على الطالب في السنة الدراسية الواحدة (18) ألف ريال، وبالتالي فإنَّ مليارات الريالات تتسرب سنوياً خارج حسابات القطاع التعليمي، حيث تُمثِّل بذلك عبئاً سنوياً لا يُمكن التخلص منه. وينقسم الهدر في التعليم بالمملكة إلى قسمين رئيسين، الأول هو الهدر الكمي، ويتمثَّل ب (335) ألف طالب وطالبة في مراحل التعليم العام، إذ سيعيدون دراسة صفوفهم الدراسية في العام الدراسي المقبل، وهو ما يساوي على الحد الأدنى (6,3) مليارات ريال سعودي في عام واحد فقط، أمَّا القسم الثاني فيتمثَّل في الهدر النوعي، ويتمثَّل بجودة نتائج الدارسين في التعليم العام، حيث تشير الإحصاءات الرسمية إلى أنَّ قرابة (50%) من الطلاب والطالبات حصلوا على تقدير مقبول، وقرابة (25%) حصلوا على تقدير جيد، أيّ أنَّ ثلاثة أرباع الطلاب والطالبات في مراحل التعليم العام حتى الصف الأول ثانوي (75%) مستواهم جيد فما دون، وهذا الرقم لا يتناسب مع مدخلات الموارد المالية بحسب التصنيفات العالمية لمخرجات التعليم، علماً أنَّ هذه النسب في الأداء مبنية على نتائج اختبارات يضعها كل معلم لطلابه، وهو المسؤول عن تصحيحها، وليست مبنية على نتائج اختبارات دولية عالمية أو وطنية مقننة. وهذه النتائج المخيفة لطلابنا تدق جرس الخطر في مستقبل الأجيال القادمة، حيث إنَّ هؤلاء الطلاب هم مستقبل الوطن، وهذا المستوى من الأداء يمتد لمراحل الدراسة الجامعية، التي سيكون مستوى الهدر فيها أكبر وأكثر ضرراً؛ وذلك لأنَّ خريجيّ التعليم العالي هم روافد التنمية، من خلال سوق العمل والإنتاجية المطلوبة منهم. معايير التعيين مفقودة ومتابعة الأداء ضعيفة.. ومستقبل الأجيال في خطر مُسبِّبات ظاهرية وأكَّد د.عبدالعزيز بن رشيد العمرو -أستاذ المناهج وطرق التدريس المشارك بجامعة حائل- على أنَّ العملية التعليمية تواجه العديد من المعوقات أو المؤثرات داخل المنظومة والخارجية المحيطة، مُضيفاً أنَّ المتعلمين يتأثرون بهذا المحيط المليء بالمُشتِّتات، موضحاً أنَّ هذا التأثُّر ينعكس على أدائهم ويحد من تميّزهم، بل ويتجاوز ذلك إلى تعثُّرهم وتسربُّهم، داعياً إلى دراسة أسباب هذا التعثُّر ومعرفة أسبابه البعيدة، إلى جانب بحث التجارب الناجحة لمقابلة مثل هذه الإشكالات. وشدَّد على أهمية عدم حصر الجهود في ملاحظة المُسبِّبات الظاهرية أو المباشرة، لأنَّها ربَّما تكون بمثابة الأسباب البسيطة التي لا تُمكّننا من رسم منهجية ناجعة لحل هذه المشكلة الحقيقية، داعياً إلى أن يكون التركيز على تقصيّ كافة الأسباب المتعلقة بعناصر العملية التعليمية بكافة تفاصيلها، وكذلك العناصر المؤثرة خارجها، مشيراً إلى أنَّ هذا يتطلب وقتاً طويلاً، إلى جانب إعداد برامج متخصصة لعلاج طويل الأمد. خطة موازية وبيَّن د.العمرو أنَّه من الواجب إعداد خطة موازية لمعالجة الحالات القائمة والفئات المتعثرة، من خلال دمجها في برامج لإعادة التأهيل، وتطوير القدرات، وإخضاعها لبرامج خاصة في البحث الإجتماعي والنفسي، وخلق برامج خاصة لتجسير المؤهلين منهم للمراحل الأعلى، مع بذل جهد في المتابعة والتقويم المستمر، مؤكِّداً على أنَّ تشخيص الأسباب بدقة سيكون نافذنتا لإيجاد الآليات الناجعة لمقابلة هذه الإشكالية المعقدة، والإفادة من مؤسسات التدريب والتعليم التقني وبرامجها المختلفة. وأشار إلى أنَّه لابُدَّ أن يتم أيضاً تفعيل دور الإرشاد والتوجيه الطلابي، ومتابعة الأداء التعليمي، وتكوين ملفات تفصيلية لإنجاز الطلاب أثناء عمليات التعليم والتدريب في مراحل التعليم العام، إلى جانب الاهتمام بتنمية العلاقة بين الأسرة والمدرسة، وكذلك بناء خطوط وآليات للتواصل المستمر، إضافةً إلى تفعيل دور الأندية الطلابية على مستوى المدارس، وإتاحة فرص أكبر من حيث الخيارات المعرفية والعلمية والشخصية خلال اليوم الدراسي، لتعزيز جوانب الثقة بالنفس والقدرات. وأضاف أنَّه ينبغي أيضاً تنمية الجدارات والقدرات الخاصة وبناء جسور من التواصل الفاعل بين المعلمين والطلاب وذويهم، لافتاً إلى أنَّ التقنيات الحديثة لم تعد ترفاً تعليمياً، بل أضحت تلعب دوراً أساسياً في عمليات التعليم المتجددة، موضحاً أنَّ المتأمل في جهود وزارة التعليم يلحظ الاهتمام الكبير في مجال دمج التقنية في العملية التعليمية، إلاَّ أنَّ الأمر لا يزال يحتاج إلى مزيد من جهود العاملين في الميدان التربوي، حيث لن تستطيع التقنية المتطورة أن تلغي دور المعلم أو أن تقلل من دوره الأساسي في تنمية المهارات العالية، والاتجاهات الإيجابية. منظومة تنموية وأوضح م.برجس البرجس -متخصص في الشؤون الاقتصادية- أنَّ مشكلة الهدر في التعليم جزء من مشكلة منظومة التعليم الأساسية، التي هي جزء من مشكلة المنظومة التنموية بالكامل، مُضيفاً أنَّ أسباب مشكلة منظومة التعليم الأساسية تتلخص في عدم إيجاد عوامل النجاح الأساسية، وهي عدم التعيين بالكفاءات، إذ لا يوجد لدينا معايير لتعيين الكفاءات من أعلى المناصب بالوزارة والوكلاء وحتى مديري الأقسام ومديري التعليم بالمناطق وحتى مديري المدارس. وأضاف أنَّ من الأسباب أيضاً عدم وجود مراكز للدراسات وصناعة القرار، والاكتفاء باتخاذ قرارات حساسة من غرف الاجتماعات، مؤكِّداً على أنَّه ما لم يتم علاج الأسباب الرئيسة، فإنَّ أيّ علاج نتخذه لن يجدي وسيطول حل المشكلة بعد زيادة عمق جراحها. هدر عبثي وقال أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي -عضو مجلس الشورى، وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود-: "إنَّه من حيث المبدأ، لا ينبغي أن يُستكثر الإنفاق في سبيل التعليم مهما بلغ، ومهما اعتراه من إخفاقات، إنَّ الهدر يمكن أن يكون مصدر إقلاق في قطاعات كثيرة، وهو موجود مشتهر، بيد أنَّه جديرٌ بالاغتفار في سبيل التعليم، ما لم يكن عبثيّاً في نهاية المطاف"، مُضيفاً أنَّ ممَّا يبعث على الأسف حقّاً ليس هدر المال، ولكن ضياع هؤلاء الناشئة، أعماراً وقيمة وطاقة وطنيَّة. ولفت إلى أنَّ ما يحدث في تعليمنا هو إهمال التأسيس الجيِّد، وهو ما يُرتِّب تراكمات من الأمراض التربويّة والتعليميَّة تصعب معالجتها في مراحل التعليم المتعاقبة، مُضيفاً: "أنا أعلم –مثلاً- أنَّ طلبة جامعيين لم يكونوا جديرين أصلاً بالوصول إلى الجامعة، وكنتُ أعجب كيف وصل أحدهم أو إحداهن، وكيف تخطّوا الحواجز بنجاح وربما بتفوّق، حتى وصلوا إلينا وبعضهم لا يُحسن كتابة اسمه، فإن يرسب في المرحلة الثانوية أو الجامعية مثل ذلك الطالب أمر طبيعي؛ لأنَّه تركة إهمال وتساهل في المراحل السابقة". أميّة إلكترونية وأضاف أ.د.الفيفي أنَّه ينبغي في هذه الحالة بحث ملفَّه؛ لتقصّي ما أسلفه في الأيّام الخالية، مُقترحاً جعل المرحلة الابتدائيَّة مفرزةً لا يجتازها طالب أو طالبة ما لم يكونا جديرَين بالاجتياز، وأن يُوجَّه الطلاب المخفقون في اجتياز المرحلة الابتدائيَّة إلى ضروب من التعليم الخاص أو المهني، وعندئذٍ يمكن تلافي الهدر البشري، إلى جانب تلافي الهدر المالي، مُبيِّناً أنَّ الهدر البشري يتمثَّل في جيوشٍ من الشباب العاطلين مع حملهم الشهادات، وذلك لأنهم غير مؤهّلين ولا يحملون القابليّة للعمل. وأكَّد على أنَّ سوق العمل لن يتحمَّل عبء أمثال هؤلاء، مُشيراً إلى أنَّ هذا جانب مسكوت عنه في قضيَّة البطالة، وهو أنَّ الجامعات تُخرّج مئات الآلاف من شبه الأُميّين لغوياً ومعرفياً، وهم إلى ذلك عالة على ذويهم ومجتمعهم، حيث إنَّهم بلا استعداد حقيقي للعمل والصبر والمثابرة، مُضيفاً أنَّ واقع التعليم الإلكترونيّ حتى في الجامعات العربيّة، فضلاً عن مراحل التعليم الدنيا ما برح دون الدرجة المطلوبة والوضعيّة الممكنة بكثير، مُرجعاً السبب إلى أنَّ مؤسسات التعليم تعاني من أُميّة إلكترونيّة حتى على مستوى المعلمين أنفسهم. قطاع حيوي بيَّن د.أسامة أحمد أبو النجا -أستاذ علوم الحاسبات بجامعة الملك عبدالعزيز، ومشرف عام على فرع الجامعة السعودية الإلكترونية بجدة- أنَّ عدداً من دول العالم تتكفل بتقديم التعليم العام لمواطنيها بالمجان، كما أنَّ القليل من هذه الدول تقدم التعليم العالي بالمجان أيضاً، ومنها على سبيل المثال المملكة، موضحاً أنَّ القطاع التعليمي يُعدُّ من أكثر القطاعات الحكومية أهمية وتكلفة، ودائماً ما تكون عملية الموازنة بين ترشيد الإنفاق على التعليم وجودته الهاجس الأكبر للدول. ولفت إلى أنَّ المملكة تحرص على تشجيع وتحفيز مواطنيها على التعليم، وذلك من خلال فتح عشرات الآلاف من المدارس وعشرات الجامعات، إلى جانب توفير التعليم بشقّيه العام والعالي بالمجان، وكذلك صرف مكافآت مالية لطلاب التعليم العالي، حيث يتعدى عدد الطلاب في مرحلة التعليم العام خمسة ملايين طالب وطالبة، وفي مرحلة التعليم العالي يقارب عدد الطلاب مليون طالب وطالبة، مُؤكِّداً على أنَّ هذه الأرقام تعكس اهتمام الدولة الكبير وحجم الإنفاق الهائل على هذا القطاع الحيوي الهام. إنفاق حكومي وأوضح د.أبو النجا أنَّ عدد الطلاب والطالبات الذين لم يجتازوا السنة الدراسية (2015م) في مرحلة التعليم العام هو (300) ألف طالب وطالبة، وهو ما يُمثل (6%) من إجمالي عدد الطلاب في هذه المرحلة، مُضيفاً أنَّها نسبة مقبولة، مع أهمية العمل على تقليلها في المستقبل القريب؛ من أجل تعظيم الفائدة من الإنفاق الحكومي على التعليم، والحفاظ على أكبر شريحة من المجتمع من التسرب من التعليم العام، داعياً إلى مراجعة وتطوير المحتوى العلمي للمواد الدراسية، والتدريب المستمر لمعلميّ مراحل التعليم العام على استخدام التقنية والأساليب الحديثة في التدريس. وشدَّد على ضرورة تطوير معايير قبول خريجي الثانوية العامة في الجامعات؛ لتقليل نسبة تسرُّب الطلاب من الجامعات، مُضيفاً أنَّ المعايير المعمول بها حالياً "الاختبار التحصيلي واختبارات القدرات العامة" جيدة ويمكن البناء عليها، بحيث يتمُّ توجيه كل من لا تنطبق عليه شروط القبول ويرغب في إكمال دراسته إلى القطاعات التعليمية الأخرى، مثل المعاهد الفنية. د.عبدالعزيز العمرو م. برجس البرجس د.عبدالله الفيفي د.أسامه أبو النجا سلبيات العملية التعليمية تؤثر على الطلاب