تجربة المملكة لتمويل الإنفاق بالعجز من خلال إصدار سندات أو عبر السحب من الاحتياط العام ليست بالأمر الجديد؛ فخلال الفترة الواقعة بين (1983 وحتى عام 2002) كانت المملكة تمول عجز الميزانية بالاستدانة، اللهم إذا استثنينا عام 2000 الذي حققت الميزانية فيه فائض قدره 22.7 مليار ريال. فالمملكة قد اكتسبت خبرة في هذا الشأن، ولذا فإن تصريح محافظ مؤسسة النقد عن إصدار المملكة لسندات بقيمة 15 مليار ريال، وسحب 244 مليار ريال من الاحتياطي العام كانت أمرا متوقعا، خصوصاً وان الميزانية عند إعلانها قد قدرت العجز بنحو 145 مليار ريال. والمملكة في اختلافها عن معظم البلدان التي تمول الإنفاق بالعجز كالولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي وغيرها تحرص دائماً على الاقتراض من المصادر المحلية أو الوطنية وتتجنب ما أمكن اللجوء إلى جهات التمويل الأجنبية في الخارج، إذ حتى في أصعب الأوقات، عندما تراجعت أسعار النفط إلى 9 دولارات للبرميل عام 1998، كانت المملكة تتوخى ألا يتعدى التمويل الخارجي نسبة متواضعة جداً من إجمالي التمويل، فالمصادر الرئيسية لتمويل عجز الميزانية كانت المصارف السعودية والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية. طبعاً التمويل بالعجز ليس كله أمر سلبي مثلما يبدو للوهلة الأولى، فالمحافظة على عدم تراجع تيار الإنفاق الحكومي من شأنه أن يبث النشاط في كافة مفاصل الاقتصاد وخاصة قطاع الأعمال الذي يرتبط أداؤه بالإنفاق الحكومي إلى حد كبير، ولكن هذا لا يعني عدم الالتفات للجوانب السلبية لهذه العملية خصوصاً وأن اقتصادنا لا يزال يعتمد على النفط، وهذا يعني أن مقدرتنا على التمويل بالاعتماد على الذات مرتبطة بمستوى العائدات التي تراكمت لدينا في السابق. كما أن هناك أمر أخر على قدر كبير من الأهمية، فتمويل الإنفاق الحكومي من خلال إصدار السندات يعني أن جزءا من أموال البنوك سوف تذهب لشرائها باعتبارها أوراقا مالية آمنة، وهذا بدوره سوف يقلل من الأموال التي يمكن أن تخصصها المصارف للتسهيلات الائتمانية التي يمكن أن يطلبها القطاع الخاص من ناحية، من ناحية أخرى فإن الاستمرار في تمويل العجز بهذه الطريقة من شأنه أن يؤدي إلى رفع الفائدة على القروض المقدمة للأفراد وقطاع الأعمال، خصوصاً وأن حجم هذه القروض قد وصل إلى 1.3 تريليون ريال، أي أنه يقترب من حجم الودائع الموجودة لدى المصارف والبالغة 1.6 تريليون ريال. مما يعني أن نسبة القروض المقدمة إلى الودائع الموجودة لدى المصارف تقترب من الحد الأقصى الذي حددته مؤسسة النقد وهو 85%. ومثلما نرى فإن القطاع المالي هو المستفيد رقم واحد من كل ما سبق الإشارة إليه، فمصارفنا سوف تتاح لها الفرصة للاستثمار في السندات الحكومية المحلية بسعر فائدة يتجاوز ما تحصل عليه جراء استثمارها في سندات خزائن الدول الأخرى وخصوصاً السندات الأمريكية، كما أن المصارف ربما ترى أن الظروف قد أصبحت مهيأة لزيادة رأسمالها، فأسعار النفط بعد الاتفاق الذي تم مع إيران سوف تميل إلى الانخفاض، وهذا سوف يؤدي إلى إصدار مزيد من السندات الحكومية للتعويض عن نقص العائد النفطي، وزيادة المصارف لرأسمالها سوف يمكنها من رفع سقف الودائع شبه المجانية، وبالتالي التوسع في تمويل الإنفاق الحكومي والخاص بسهولة.