أوردت صحف الأسبوع الأخير من شهر رمضان خبرا عن عدد من الشباب الأندونيسيين هاجموا ثلاث فتيات مسيحيات بالسواطير حتى قضوا عليهن! وما القتل بالسواطير أو بأي أداة كان، إلا امتداد لثقافة العنف التي شاعت في عالمنا العربي والإسلامي التي يمكن أن نطلق عليها ثقافة السواطير، فالعنف هو العنف أكان بالساطور أم بالسكين أم بسلك كهربائي أم بحزام أم بعود قصب السكر أم باللسان، فلقد تنامت هذه الثقافة في عالمنا العربي والإسلامي بامتياز فاق الحدود فلم ينجُ منها أحد إلا من رحم ربي، وما فتئت الصحف تورد أخبارا تمثل بحق هذه الثقافة، وما خفي منها مما لم تكشفه عيون الصحافة لابد أنه أعظم، ففي بلد عربي ضرب رجل زوجته بعود من عيدان قصب السكر حتى الموت لأنها لم تجهز طعام الإفطار، وفي بلادنا أصبحت ثقافة السواطير من الأمور المعتادة التي نراها كل يوم في الصحف، هذه الثقافة لا أحسبها طارئة أو جديدة وكل ما هنالك أننا لم نكن نعلم عنها ثم صرنا نقف على بعضها بفضل اتساع رقعة العمل الإعلامي وتطور تقنياته وآلياته، فقد أوردت الصحف صورا لمعلم يضرب طفلا صغيرا بسلك كهربائي ولم يستطع الطفل على الرغم من محولاته الكثيرة تفادي الوقوع بين أنياب ذلك الوحش الشرس الذي يفترض أنه معلم ومربٍ لا وحش كاسر ينهال بكل ما أوتي من قوة وجبروت على طفولة ضعيفة بائسة، وعمله ذلك لا يقبله عاقل مهما أورد من مبررات، ومثله ذلك الرجل الذي أظهرت الصحف صورة ابنته ذات الثماني سنوات التي لم تشفع لها الطفولة والبراءة لدى ذلك الرجل القاسي الذي فقد كل معاني الرحمة والرأفة ومشاعر الأبوة الحقة فانهال على الصغيرة ضربا بالحزام أو العقال، بل وجردها من ملابسها ليكون ضربه أكثر إيلاما ووجعا لها ثم حملها خارج المدينة ليمعن في ضربها ثم عاد بها ليحبسها في حجرة من حجرات البيت وخرج ليسهر مع رفاقه! وتلك السيدة التي انهالت في أول رمضان على خادمتها الضعيفة ضربا أفضى بها إلى الموت، ومثلها السيدة التي قامت قبل أشهر مع زوجها بحبس الخادمة في دورة المياه مقيدة ومنعا عنها الطعام والشراب (دخلت امرأة النار في قطة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، وغير تلك القصص كثير مما لم آت على ذكره لكنه ويا للمفارقة يحدث في مجتمع يدين أهله كلهم بدين الإسلام دين الرحمة والرأفة (الراحمون يرحمهم الله) و(ليس منا من لم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا) و(ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) !!!!. إن كل ما ذكرته يدخل في ثقافة السواطير التي لابدّ أن لها جذورا في ثقافة وتربية وسلوك من يمارسها، وإلا فمن أين جاءت؟ والسؤال الكبير الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل تقف ثقافة السواطير عند حدّ التعدي بالضرب المبرح على الأبناء والتلاميذ والخدم وغيرهم ممن هم تحت سلطة من يمارسونه، أم إنها تتعدى فعل الضرب إلى كل أنواع العنف من أقوال وأفعال من أناس لا سلطة لهم على الآخر غير سلطة الاستقواء بمركز وظيفي أو فكر إيديولوجي؟ وأعتقد جازمة أن ثقافة السواطير أصبحت ثقافة راسخة لدى كثيرين في مجتمعنا، وهي متنوعة تتجلى في التطاول باليد كما تتجلى في العنف القولي باللسان الذي تبدو مظاهره واضحة للعيان في أماكن كثيرة، في البيوت وفي أماكن العمل وفي الشارع، ومن ثقافة السواطير هذه على سبيل المثال لا الحصر: - التقليل من قيمة المرأة بسلطة الرجل في الشارع وفي البيت: فتحت ذريعة ضبط السلوك العام في الشارع يقوم بعض رجال الهيئة بالتطاول على بعض السيدات المحتشمات ويعاملوهن بغلظة وخشونة لمجرد أنهن لا يغطين وجوههن كما يريدون هم لا كما اقتنعن هن ؛ ذلك أننا نعرف جميعا أن غطاء الوجه مسألة خلافية ولا إجبار فيما اُختلف عليه بين الفقهاء وإذا لم يستجبن يقومون بإخراجهن من السوق وكأن السوق صار ملكا مشاعا لهم («الرياض» السبت 19 رمضان زاوية باتجاه الأبيض، كذلك رأي القارئة مريم العبدالله ص7)، بل إن بعضهم يحاصرون سيارات السيدات والأطفال في بعض الشوارع كشارع التحلية ولا يسمحون لهم بالمغادرة حتى يجبروا الأطفال أو السائقين على إعطائهم أرقام هواتف أولياء أمورهم ليتحدثوا معهم بفوقية وتطاول وقلة تهذيب تستحضر في أذهاننا ما يفعله رجال الاستخبارات والشرطة في الدول الديكتاتورية. وبذريعة ولاية الرجل على المرأة يستغل بعض أولياء الأمور من آباء وأشقاء وأزواج ولايتهم عليها فيعملون على امتهانها واغتصاب حقوقها وسحق كرامتها بمبررات ولايتهم عليها وكل ذلك ينتمي إلى ثقافة السواطير التي تجعل رجلا بحكم ولايته على ابنته التلميذة في الصف الخامس الابتدائي يزوجها من رجل سبعيني ربما في عمر جدها، ينتزعها أبوها من مرابع طفولتها ليقذف بها في أتون رجل سبعيني شبق ليتنازل له عن دين يبلغ خمسين ألف ريال («الرياض» الجمعة 11 رمضان زاوية عطر وحبر)، وهذا مثال من أمثلة كثيرة توردها الصحف دلالة على ترسخ ذلك السلوك المشين وتباهيا بفحولة كاذبة تساق فيها فتاة صغيرة قربانا على مذبح فحل شبق طاعن في السن لا يستحي من الاقتران بصغيرة بالكاد جاوزت سنواتها العشر ؛ ليكون فعله أكثر شبها بالاغتصاب!! (اقرأ الخبر الذي أوردته جريدة الحياة في رمضان من تفضيل فتاة ذات عشر سنوات زوجها السبعيني على أهلها). ثقافة السواطير هي التي تجعل بعض أولياء المرأة يعاملونها كما يعمل الرقيق فيتصرفون معها بلا رحمة ولا إنسانية فمن أب يقاطع ابنته المراهقة فلا يكلمها ما يزيد على عام كامل إلى(فتاة) أربعينية لم تنهكها سنواتها الأربعون بقدر ما أنهكها تسلط الأب والأم ثم الأشقاء وأبنائهم فلا تعرف لها حياة غير حياتها التي قضتها من أجلهم وفي خدمتهم فلا زوج ولا أبناء ولم يبق لها بعد هذا العمر الذي ذهب هدرا سوى الحلم بوظيفة تجعلها تستنشق هواء خاصا بها بعيدا عمن استعبدوها، لكن حتى الأحلام تصبح مستحيلة على من عشن في سجن كسجنها لأن الجلادين والقضاة أهلها ولا أحد سواهم (انظر «الرياض» الأربعاء 9 رمضان مقال الكاتبة هيا المنيع، والتعقيب عليه من أخصائي الطفولة عبدالرحمن الصبيحي السبت 19 رمضان ص7). إن السؤال الأكثر إلحاحا هنا هو لماذا يفزع بعض الناس ويدقون أجراس الإنذار ويتباكون على ضياع الفضيلة وإهدار الشرف عندما تقوم امرأة ما بالكشف عن وجهها بما لا يتعارض مع الاحتشام، ويصمتون عن امتهانها وإذلالها إنسانيا وقانونيا ونفسيا؟ - ممارسة دور محاكم التفتيش في العصور الوسطى نمط من أنماط ثقافة السواطير التي يقوم بها بعض معلمي المدارس المتشددين ضد بعض آخر من زملائهم الذين لا يشاركونهم الفكر المتشدد فيتهمونهم بالخروج عن الدين تلك التهمة التي أصبحت من أسهل التهم التي تلصق بالمخالفين، فيعملون كل ما في وسعهم لتأكيد التهمة عليه بحشد الاتباع وتجنيد التلاميذ الذين يزج بهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل ويرسخون في عقولهم الصغيرة سلوك الظلم والجور والتعدي على الآخر زورا وبهتانا ووفاء لإديولوجيا التشدد والتطرف (المعلم الحربي مثلا). وهي الثقافة عينها التي تمارسها بعض النساء المتشددات في فرض رؤاهن وتصوراتهن على نساء أخرَ في المجتمع وفي حقول العمل المختلفة كحرية المرأة في تهذيب حاجبيها أو قص شعرها وتلوينه وغير ذلك مما تختاره لنفسها من زينة وملبس في وسط نسائي خالص، ومنه منع السيدات من الوقوف تحية للنشيد الوطني في الحفلات الرسمية، حتى الأعراس لم تسلم من إيديولجيا منغلقة تفرض قناعاتها على حفل العرس ليصبح في آخر المطاف مأتما لا عرسا . ثقافة السواطير هي التي تتدخل في خيارات أفراد المجتمع، حيث تتولى فئة واحدة الزج بنفسها في كل قضية وطنية أو ثقافية أو شخصية لتصادر خيارات الآخرين وتفرض خيارها هي فقط مما يجعل أفراد المجتمع كله وكأنهم صغار لم يبلغوا الحلم ويحتاجون دوما إلى من يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى ما يريده هو لا ما يريدونه هم مما يعزز عندنا ثقافة القطيع ويعمقها، فالقطيع لا خيار له إلا ما يراه الراعي الذي يحمل عصاه ويقوّم بها أيّ اعوجاج عن جادة الطريق الذي يريد لهم السير فيه، حتى أصبحت كثير من أمور بعض الأفراد صغرت أم كبرت لا يمكنهم القيام بها حتى يسألوا ويستفتوا في دأب نادر لإلغاء دور العقل. - ثقافة السواطير هي التي تجعل بعض القضاة يبالغون في بعض الأحكام مبالغة لا تناسب الجرم، كحكم أحدهم على أحد الكتاب الأكاديميين بالجلد بلغ بضع مئات لمجرد أنه وقعت بينه وبين زميل له خصومة على صفحات الجرائد، وأحيانا أخرى يكون الحكم بالجلد بلا مراعاة لحال المحكوم عليه كالحكم على رجال طاعنين في السن كالرجل السبعيني الذي وجد يمارس السحر فحكم عليه ببضع مئات من الجلدات، فأين المقدرة على تحمل ذلك لمن هو في هذا العمر؟ بل أين العمر الذي يتسع لتلك الجلدات لو كان الحكم عليه بأخذها متفرقات على فترات متباعدة؟ بل أين مراعاة الشيخوخة التي تقتضي ذلك حتى لو كان ذلك الشيخ مذنبا؟ ماذا بقي في عمره حتى يرعوي ويتوب، ألا يكفي حبسه في السجن كي نحول بينه وما يمارسه؟ أم أن ثقافة السواطير تأبى إلا أن تمارس عنفها بمعزل عن العقل والمنطق . - ثقافة السواطير هي التي تجعل بعض أدعياء الإبداع يهاجمون بعض المبدعين فيفصلون إبداعهم عن سياقه الإبداعي العام ليسبغوا عليه خصوصية مجتمعية ودينية ويرمون صاحبه بأمور يتبرأ منها الدين والخلق والأعراف في وصولية نادرة لا تليق إلا بهم وبكل من استمرأ الظهور بمظهر الوعاظ الأتقياء الأنقياء من الشوائب وهم أبعد ما يكنون عن ذلك، كالذي استكثر أن تخرج شابة سعودية بتجربة إبداعية جديدة تكشف عن وعي ونضج لم يخرجا عن أسس الدين وثوابته فكتب في إحدى الصحف يلمزها ويشكك في دينها وخلقها بأسلوب فجّ لا ينفصم عن سياق سلوكه العام. لا أريد أن أسترسل في ثقافة السواطير التي نرى لها أمثلة كثيرة في حياتنا أنى توجهنا، لكن ينبغي أن يدرك جميعنا أن ثقافة السواطير هي التي تخلق طبقة من المستبدين في كل مكان يستطيعون فيه قمع الآخر باسم الولاية الأسرية أو الوصاية الدينية أو التربوية وهؤلاء كثيرا ما يكونون بمنأى عن المحاسبة والمساءلة فيستمر استبدادهم وتنمو ثقافة السواطير يوما عن يوم، إضافة إلى ذلك فإن ثقافة السواطير تخلق طبقة من الناس الخانعين الخائفين الوجلين الذين لا يكفون عن التلفت يمنة أو يسرة عند الخروج من منازلهم أو الذهاب إلى أعمالهم أو عند قيامهم بدور تنويري في المجتمع عبر التدريس أو الكتابة أو ممارسة أي عمل إبداعي. وأخيرا يتطلع كثيرون من أبناء الوطن إلى دور تقوم به هيئة حقوق الإنسان ممثلة في شخص وزيرها الأستاذ تركي السديري للقضاء على مظاهر ثقافة السواطير بترسيخ جملة من المبادىء والمفاهيم التي منها: - إشاعة ثقافة حقوقية تجعل الناس يعرفون حقوقهم كما يعرفون ما لهم وما عليهم بوضع قوانين للشارع مكتوبة تتاح للجميع حتى يعرفوا المسموح والممنوع ومن له الحق في مساءلتهم وما حدود تلك المساءلة، وعدم التجاوز عن أشخاص يقومون بامتهانهم وانتهاك حقوقهم باسم الدين أو الولاية أو المسؤولية التربوية. - وضع قواعد تهدف إلى توفير المناخ المناسب للحياة الاجتماعية الآمنة والمتطورة والفاعلة والمتفاعلة مع ما يجري في العالم حولنا على نحو إيجابي، كما تهدف إلى توفير مناخ اجتماعي صحي يخلو من التسلط والاستبداد وانتهاك الكرامة والحقوق وكل ما يتعارض مع ما فرضه الإسلام للإنسان رجلا كان أم امرأة صغيرا كان أم كبيرا من حقوق وما أقرته قوانين منظمات حقوق الإنسان الدولية. نحن نعيش الآن انفتاحاً على الآخرين فلا يجوز أن تترك بعض أمورنا لحفنة تفتقد الشعور بالمسؤولية المجتمعية والوطنية والإنسانية .