ولعل السبب الأهم للاكتئاب عند بودلير هو استحالة الحب، أي أن الحب لا يمكن أن يتحقق في عالمنا، فالحب يختفي في نفس اللحظة التي يعلن فيها المحب عن حبه، أي بمجرد أن يتفوه به، ويتحول إلى مقايضة أو توقع لاستجابة أو إلى أن يشعر المحبوب بشعوره، أو إلى نوع من الجزاء، وهذه كلها أحاسيس لا تنتمي إلى الحب، وإنما تنتمي إلى الهبة، فأنا أهديك شيئاً مقابل أن تهديني شيئاً مقابله، وحتى هذه ليس لها في الحقيقة وجود لأن الهبة تزول بمجرد أن يتوقع الإنسان مقابلاً لها، وهذه هي الأغلال التي يضعها الحب في أعناقنا، فأنا أحب ولكن يجب لكي يكون هذا الحب حباً ألا أصرح به البتة، وأن أخفيه في جوانحي إلى الأبد، والمحبوبة وإن عرفته فيجب ألا تشعرني بذلك لأنها بذلك تضع نهاية له، أي أن الحب يجب أن يتحقق من النظرة الأخيرة أو آخر نظرة، والنظرة الثانية تلغيه، أو بكلمات أخرى نظرة لا يعقبها أي لقاء وهنا تتحقق ذروة الاكتئاب والإحباط، وهذه هي الحالة التي يصفها بودلير في قصيدته: «إلى عابرة»: الشارع الصاخب يزعق من حولي وامرأة طويلة القامة ورشيقة تعبر الشارع، وعلى قسماتها حداد جليل وألم ملوكي في خطوات واثقة متحكمة في أكمامها وأهداب فستانها نبيلة ورشيقة بساقي تمثال وأنا أرتشف متشنجاً غائباً عن الوجود من عينيها السماويتين الداكنتين العاصفتين النعومة التي تسبي واللذة التي تفني برق خاطف ويهجم الليل، أيها الجمال الهارب الذي جعلني فجأة أولد من جديد هل كتب علي ألا ألقاك إلا في الأبدية في مكان آخر، بعيداً من هنا، وبعد حين، أو ربما أبدا ذلك لأنني لا أعرف إلى أين تهربين، وأنت لا تعرفين إلى أين أذهب أنت التي أحببتك، وأنت التي عرفت ذلك وإذن فهو الحب من أول نظرة، الحب المكبوت الذي لا يصرح به من الطرفين، واللقاء الأول الذي لا يعقبه لقاء آخر.. إلى الأبد، ولهذا كتب علينا أن نحيا في اكتئاب مقيم.