ويمكن لسياسة تجمع بين القدرة العسكرية والحوافز السياسية والنمو الاقتصادي الذي يعود بالنفع على كافة مكونات الشعب أن تساهم في إنهاء دوامة العنف الدائر، وتمهد للخلاص منه جاءت عملية اقرار الدستور العراقي الدائم لتشكل خطوة متقدمة على طريق انضاج العملية السياسية في العراق الجديد. بيد أن تداعيات ما بعد الاستفتاء الدستوري الذي جرى في منتصف تشرين الأول أكتوبر الماضي بدت ضاغطة على الحياة السياسية العراقية، فقد عززت حالة الاستقطاب المذهبي والعرقي، بل والجهوي . وهذا ما توحي به اليوم خريطة التحالفات التي ستخوض القوى العراقية على أساسها معركة الانتخابات النيابية في منتصف الشهر القادم. لقد حصلت مسودة على نسبة تأييد بلغت 99٪ في محافظة دهوك ذات الغالبية الكردية، كما ايدتها محافظة ميسان ذات الغالبية الشيعية بنسبة 97,79٪ في حين بلغت نسبة الرفض في محافظة الانبار ذات الغالبية السنية 96,95٪ . وكانت الفقرة (ج) من المادة (61) من قانون ادارة الدولة للمرحلة اللانتقالية قد نصت على أن: «يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او أكثر». وتنص الفقرة(ه) من المادة نفسها على أنه اذا رفضت مسودة الدستور الدائم في الاستفاء يتم حل الجمعية الوطنية وتجري الانتخابات لجمعية وطنية جديدة في موعد اقصاه 15 كانون الاول 2005. وفي اللحظات الأخيرة، وإثر ضغوط داخلية وخارجية مكثفة، وافقت كتلتا الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الكردستاني، اللتان تشكلان الحكومة الراهنة، على مقترح باضافة فقرتين تؤكد الاولى على ان العراق دولة واحدة، وان الدستور يحافظ على هذه الوحدة، في حين تؤكد الثانية على ضرورة استخدام اللغة العربية في اقليم كردستان. بيد ان الكتلتين رفضتا اقتراحا ثالثا يدعو إلى تعديل الدستور عن طريق بالاستفتاء بدلا من موافقة ثلثي اعضاء البرلمان. وقد أدى هذا التطور إلى دعوة الحزب الاسلامي مناصريه للتصويت لصالح الدستور الدائم، الامر الذي أخرج هذا الدستور من مأزق معارضة ثلثي المحافظات الثلاث، حيث حسم ثقل الحزب في محافظة نينوى الوضع لمصلحة «نعم للدستور»، وذلك بعد أن سقط بأغلبية تتجاوز الثلثين في محافظتي الأنبار وصلاح الدين. ولو أن التيار الصدري حشد أتباعه في الأحياء الفقيرة ببغداد للتصويت بالرفض إلى جانب العرب السنة من أهل بغداد، لأدى ذلك إلى قلب موازين القوى لصالح معارضي الدستور ولكانت تحققت له هزيمة مؤكدة. وفي الانتخابات النيابية القادمة، تم اعتماد سياسة الدوائر الانتخابية بدلاً من اعتبار العراق دائرة واحدة، وهذا يعني تكريس الطابع الذي تتميز به كل محافظة او دائرة انتخابية لصالح المرشح الذي سيكون من بين نسيجها الاجتماعي، وليس ثمة من تحفظ على ذلك. بيد أنه على صعيد الحالة العراقية الراهنة، فإن ذلك يعني في التحليل الأخير مزيدا من الاستقطاب والتموضع المذهبي والعرقي. هذا مع صحة القول في الوقت نفسه أن نظام الدوائر الانتخابية من شأنه أن يحفظ تمثيلا متوازنا للمناطق المختلفة، مع إننا نتحدث عن برلمان وطني وليس مجلس ولايات أو مناطق، إلا أن معضلة العراق هي أن التقسيم المناطقي يختزل في الوقت نفسه تقسيما مذهبيا وعرقيا. وفي الترجيحات السائدة، تتوقع أوساط عراقية أن يحصد العرب السنة نحو 80 مقعداً في مجلس النواب، الأمر الذي يعكس الاستعداد الكبير الذي تتخذه القوائم الانتخابية الممثلة للعرب السنة. وأبرز القوائم التي تمثل العرب السنة هي جبهة التوافق العراقية، المؤلفة من ثلاثة كيانات بزعامة عدنان الدليمي، المؤيدة من قبل هيئة علماء المسلمين، وتدعم الهيئة قائمة الدليمي على الرغم من ضمها الحزب الاسلامي، الذي أغضبها بموافقته على الدستور. وهناك أيضا الجبهة العراقية الموحدة، المؤلفة من خمسة كيانات بزعامة صالح المطلك، الذي يقال إنه يسعى للانضمام إلى قائمة الدليمي. والثالثة هي قائمة «وطنيون» المؤلفة من كيانين بزعامة حاتم جاسم مخلص.والقائمة الرابعة هي جبهة الخلاص الوطني المؤلفة من ثلاثة كيانات بزعامة عايد مخلص. على صعيد قائمة الائتلاف العراقي الموحد، التي تضم 16 كيانا، بزعامة عبدالعزيز الحكيم، حصل التيار الصدري على رئاسة قوائم ثلاث محافظات، أي بمقدار يساوي حصة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يقوده الحكيم نفسه، فيما حصل حزب الدعوة، الذي يتزعمه رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري، على محافظتين. وحصل التيار الصدري على رئاسة قائمة النجف وميسان والمثنى، فيما ذهبت رئاسة قوائم محافظات ذي قار وكربلاء ومحافظة ثالثة إلى المجلس الأعلى ومنظمة بدر، التي تعتبر جناحه العسكري، بينما حصل حزب الدعوة على رئاسة قائمتي الحلة والقادسية. وفي هذه المحاصصة، فإن المهم بمعايير المعادلة العراقية أن محافظة النجف قد ذهبت للتيار الصدري. إلى ذلك، يمكن ملاحظة أن قائمة الدكتور أحمد الجلبي قد فقدت رصيداً مهماً بسبب انسحابها من الائتلاف الموحد، لكن الجلبي لم يوضح برنامج قائمته الذي ربما يختلف عن توجهات الائتلاف. بيد أن بعض التقارير قالت إن التيار الصدري قد اشترط انسحاب الجلبي من القائمة قبل الانضمام إليها. إلا أنه ليس من الواضح مدى دقة هذه التقارير. من جهتها، استقرت «قائمة التوافق العراقية»، التي يقودها رئيس الوزراء السابق إياد علاوي على حركة الوفاق الوطني بزعامة علاوي نفسه، والحزب الشيوعي بزعامة حميد مجيد موسى، وحركة الديمقراطيين المستقلين بزعامة عدنان الباجه جي، وحركة عراقيون بزعامة الرئيس السابق غازي الياور، والحركة الاشتراكية بزعامة عبد الاله النصرواي، والحزب الوطني الديموقراطي بزعامة نصير الجادرجي، والسلام والتنمية بزعامة وائل عبد اللطيف، وشخصيات مثل حسين الصدر واياد جمال الدين والشيخ حسين الشعلان. وفي خطوة لها دلالتها، سارع رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري للتأكيد على أن المرجعية الشيعية في العراق لن تدعم ائتلافاً بعينه في الانتخابات المقبلة، وأنها تكتفي بحث جميع العراقيين على المشاركة فيها. وتم تأكيد هذا الموقف من قبل ناطقين باسم هذه المرجعية، الأمر الذي يعكس حساسية الوضع السائد، ويشير في الوقت نفسه إلى تعقيد التحالفات القائمة. على صعيد آخر، تشير خارطة التحالفات الراهنة إلى احتمالات غير سارة للمرأة العراقية، فوصول هذه المرأة إلى المجلس النيابي سوف يستند أساسا إلى تبنيها من قبل القوائم ذات الحظوظ الكبيرة، وليس إلى مقدار تميزها عن بقية المترشحات.وربما أمكن اسقاط هذا المبدأ على الرجال أيضا إلا أنه أكثر تجليا بكثير فيما يرتبط بوضع المرأة. ويقضي الدستور العراقي بوجود حصة للنساء لا تقل عن 25٪ من مقاعد المجلس النيابي. وكانت دساتير وقوانين بعض الدول قد اتبعت هذا النهج، بتحديد نسبة معينة للنساء، كباكستان وبنغلادش وكازخستان وإندونيسيا وأفغانستان، بيد أن هذه الدول اختلفت وتباينت في تحديد الوجه الدستوري والقانوني لتنفيذ هذا الحكم والكيفية التي يتم فيها الوصول الى هذه النسبة، ومن الانظمة التي اخذت بهذه الطريقة ماقررته المادة 30 من قانون إدارة الدولة العراقية، وما ورد في قانون الانتخابات العراقي رقم 96 لسنة 2004 وهو وجوب وجود اسم امرأة واحدة بعد كل رجلين. ولم يحدث في الانتخابات الماضية أن شكلت قائمة انتخابية نسوية خالصة، على الرغم من جواز ذلك دستوريا، لأن الحكم الوارد في قانون الانتخابات يخص القوائم التي يقدمها الرجال فقط . كذلك سيشارك المغتربون العراقيون في الانتخابات البرلمانية القادمة، خلافا لما حدث في عملية الاستفتاء الأخير على الدستور، حيث شكك بعض القانونيين في دستورية حجب رأي المغتربين عنه، ذلك أن الفقرة (ب) من المادة (61) من قانون إدارة الدولة العراقية قد نصت على وجوب طرح مسودة الدستور على الشعب العراقي، وجاءت الكلمة مطلقة، والمطلق يجري على اطلاقه كما يقول القانونيون، لذا احتج البعض على حرمان المغتربين العراقيين من المشاركة في الاستفتاء. وينص الدستور على ان السلطة التشريعية تتألف من مجلسين احدهما مجلس النواب والثاني مجلس الاتحاد (المادة46). وقد تحدث الدستور مفصلاً عن مجلس النواب، لكنه ترك الحديث عن مجلس الاتحاد، وطلب من مجلس النواب اصدار القانون المتعلق به (المادة 62) . وهذا يعني أن العراق سيبدأ حياته الدستورية بنصف سلطة تشريعية. وسوف يتعين الانتظار كي يتفرغ مجلس النواب لاستكمال الجزء الثاني من السلطة التشريعية، أي مجلس الاتحاد. وفي الإطار ذاته، سوف يتعين على مجلس النواب خلال الاشهر الستة الاولى من ولايته سن قانون يحدد الاجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الاقاليم (المادة 114) . وسيتعين على المجلس النيابي القادم النظر في فرص اجراء تعديلات على الدستور الدائم. ولعل هذا الأمر من بين العوامل الأساسية التي دفعت معارضي الدستور لاتخاذ قرار خوض الانتخابات القادمة. وهذا على أي حال هدف مشروع وممارسة دستورية، وهو في التحليل الأخير عامل إثراء للعملية السياسية، بل طريق لتأكيد شرعيتها. كذلك، فإن البرلمان العراقي القادم مطالب بوضع تصور واضح لكيفية إدارة وتطوير الثروة النفطية في البلاد، وان مادتين ذكرتا في الدستور الدائم تتعلقان بهذه الثروة يكتنفهما الكثير من الغموض. وهناك تداخل وازدواجية في الادارة ورسم السياسات بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم في المحافظات المنتجة للنفط، فضلا عن عدم ذكر الحقول الجديدة ونشاطات الاستكشافات النفطية المستقبلية. وتولي الفقرة (2) من المادة 109 الحكومة الاتحادية رسم السياسات الاستراتيجية لتنمية الثروة النفطية مع حكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة. ومن شأن ذلك أن يتسبب في تأخر تطوير الصناعة النفطية وربما عزوف الشركات النفطية الكبرى عن الاستثمار في هذه الصناعة، واضعاف موقف العراق التفاوضي مع الشركات العالمية، نتيجة تشتت القدرات القانونية والفنية بين الحكومة الاتحادية والاقاليم، مما سيؤدي الى حدوث انعكاسات سلبية على تطور الموارد المالية للبلاد والاقاليم على حد سواء. ويطرح بعض العراقيين ثلاثة خيارات لإدارة الثروة النفطية: اولها يمنح الحكومة الاتحادية ولاية التصرف بالتعاون مع حكومات الاقاليم، فيما يخولها الخيار الثاني تخصيص نسبة من الموارد الى الاقاليم المنتجة على ان ينظم ذلك بقانون، ووفقا للخيار الثالث تقوم حكومات الاقاليم باستثمار الثروات الطبيعية باشراف الحكومة الاتحادية . وكان قد تم استثمار 2,3 مليار دولار في قطاع النفط العراقي بشكل مباشر منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين في نيسان/أبريل من العام 2003 ومن الضرورة بمكان أن يستمر تدفق الاعتمادات المالية لهذا القطاع، ليس فقط من أجل تطويره بل من أجل بقائه، فالأموال تقدم الفرصة لتنفيذ عمليات التجديد التكنولوجي وتوفير الأمن. وفي ظل أفضل الظروف في العراق، ومع استمرار الارتفاع في أسعار النفط، فإن الاعتمادات المالية المتاحة لصيانة وتحديث صناعة النفط تظل محدودة. وإذا انخفضت الأسعار فسوف تواجه الصناعة النفطية صعوبات شديدة. كما أن هبوط عائدات النفط سيكون مدمراً بالنسبة للحكومة العراقية. فالعائدات الحالية من النفط تكفي بالكاد لتغطية نفقات الدولة، ناهيك عن توفير الاستثمارات لعمليات إعادة الإعمار، وتسديد الديون، وتعويضات الحرب. بيد أن الدولة العراقية معنية بتحقيق حد أدنى من الأمن على الصعيد الوطني، يكون قادراً على تطبيع الحياة والحركة اليومية للمواطنين، ومن دون ذلك فإن وعد بناء اقتصاد الدولة ومؤسساتها الدستورية سيبقى مجرد وعد. ويمكن لسياسة تجمع بين القدرة العسكرية والحوافز السياسية والنمو الاقتصادي الذي يعود بالنفع على كافة مكونات الشعب أن تساهم في إنهاء دوامة العنف الدائر، وتمهد للخلاص منه. وفي الوقت نفسه، فإن العراق بحاجة إلى مؤسسات المجتمع المدني ذات القاعدة العريضة التي تستطيع تعزيز روح التوافق والألفة، وتتمكن في الوقت نفسه من مساءلة قوات الشرطة والجيش. وقد يتخذ هذا التوجه أشكالاً مختلفة، لكن من الأهمية بمكان أن تكون هذه المؤسسات شاملة لكافة فئات المجتمع الأهلي، وأن تلقى الدعم من قبل السلطات الإقليمية والوطنية. وعلى صعيد الخيارات الأميركية، يمكن ملاحظة أنه حين بدأت حرب العراق في العام 2003 كانت خطط واشنطن في غاية الطموح: فكما حدث مع اليابان وألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945، تصورت إدارة الرئيس بوش احتلالاً سلميا طويلاً للعراق، وأثناء ذلك الاحتلال كان من المفترض أن يدعم الإنتاج المكثف للنفط الرخاء المتصاعد، مع تشييد البنية السياسية جزءاً بعد جزء. بيد أن الأمور سارت سريعا على خلاف التوقعات. ولقد بات من الواضح أنه طالما ظلت القوات الأميركية باقية في العراق فمن المرجح أن تتصاعد أعمال العنف. ولكن إذا ما رحلت هذه القوات فإن أعمال العنف ربما تتصاعد فوق ما هو متوقع، وقد تخرج كليا عن السيطرة. إذاً فالمسألة الجوهرية تتلخص في كيفية التوصل إلى النقطة التي يصبح فيها لدى العراق قوة شرطة وجيش يمكن الاعتماد عليهما في مسألة فرض القانون والمحافظة على النظام. والآن فإن دعم قوات الأمن العراقية يبقى ركيزة أساسية لرهان المستقبل. بيد أنه، وفي تطور لافت، اتهم الرئيس العراقي جلال الطالباني يوم الأثنين الماضي قادة عسكريين اميركيين بعرقلة منح القوات العراقية دوراً اكبر في محاربة الارهاب.وقال الطالباني «طلبنا منهم تغيير بعض الأشياء ووافقوا، وبعد ذلك لم يحدث شيء». ورأى الرئيس العراقي أن العراقيين يفضلون أن ينصب تركيز القوات الأجنبية في العراق على حماية أنابيب النفط ومنشآت أساسية في البنية التحتية.