الروايات والقصص هي أكثر من صَوَّر أهوال الحروب وويلاتها، سواء كانت هذه المآسي حقيقية أو من نسج خيال الكُتَّاب.. وفي مرحلة لاحقة تطور فن الوثائقيات المصورة التي تبث عن طريق التلفزيون أو السينما فنقلت للمشاهدين بشاعة الحروب وقسوتها.. عندما أشاهد مناظر من أحداث العراق التي صارت وجبة يومية في جميع محطات التلفزيون في العالم أستعيد من الذاكرة ما كنا نعتقد أنه قصص خيالية يسجها كُتَّاب مبدعون.. ومع التكرار اليومي في عرض مشاهد البؤس التي نراها على وجوه بشر حقيقيين يكتوون بنار الحرب والعنف كادت هذه المناظر تصبح «روتيناً» يومياً لا يتوقف البعض أمامه طويلاً وقد يشاهدون هذه المناظر المروعة بسلبية مطلقة وهم يتناولون وجبة شهية مع أطفالهم وأفراد أسرهم! هكذا تحولت مشاهد الحروب والعنف إلى مناظر عادية يعرضها التلفزيون مثلما يعرض مباريات كرة القدم أو حفلات الغناء والطرب أو أي مادة تلفزيونية عادية.. ربما أصبحت قلوب البشر قاسية فعادوا إلى بدائيتهم القديمة، أو أن هذه الجرعات اليومية الثقيلة من أحداث العنف أوصلت الإنسان الحديث إلى حالة من البلادة واللامبالاة. طرحت على نفسي هذا التساؤل وأنا اقرأ النعي الذي كتبه جندي أمريكي قبل ذهابه إلى العراق.. ولم يكن ذلك الجندي ينعى أحد رفاقه وإنما كان ينعى نفسه - مقدماً - عندما علم من رؤسائه في إحدى القواعد العسكرية بولاية جورجيا الأمريكية أنه سيكون أحد الجنود الذين سيتم إرسالهم إلى العراق.. لحظتها بادر إلى كتابة سيرته الذاتية وختمها بهذه العبارة: «جيمس كينلو، 35 عاماً، من سانت هولت بجورجيا، توفي بتاريخ .... في العراق»، وترك كتابة التاريخ لمن سيعرف لاحقاً تاريخ مصرعه كي ينشر نعيه في الصحف. وبعد سبعة أشهر من كتابته لنعيه مات الجندي كينلو في العراق عندما تم تفجير مركبة الهمفي التي كان يقودها.. وكان ذلك بتاريخ 24 يوليو، فقامت عائلته بتعبئة الأسطر الفارغة من النعي ونشرته بالصحف!! لا أعتقد أن أحداً يعرف كم عدد العراقيين الذين ربما يكون هذا الجندي قد قتل.. حتى هو نفسه ربما لا يعرف إن كان قد قتل أحداً وهو يتمترس داخل المواقع التي قد يكون أطلق منها النار عندما كان يشعر بالخطر.. هو مجرد قطعة على طاولة الشطرنج تحركها الأيدي.. وهو الآن مجرد رقم في قائمة الجنود القتلى في العراق!! لقد خسر حياته وهو يحارب بعيداً عن وطنه في معركة تبدو بلا هدف.. ومات مثله - حتى تاريخ كتابة هذا المقال - ما لا يقل عن ألفي جندي أمريكي في العراق وفق ما قرأته في شريط إخباري متحرك أسفل شاشة إحدى الفضائيات بشكل عابر!! إلى هذا الحد تبدو الحروب وحوادث العنف عادية في هذا الزمان!!