سأبتدئ المقالة معك عزيزي القارئ بسؤالٍ بسيط وأعلم مسبقاً أن إجابتك ستكون بالنفي القاطع: هل سبق لك أن قرأت خبراً صحفياً أو تغريدةً منشورةً أو موضوعاً يتم الاعتذار من خلاله لطبيب تمت الإساءة إليه أو اتهامه بارتكاب خطأ طبي؟ الجميع يعلم جيداً أن القصص والمآسي التي تعرض لها مرضى أو ذهب ضحيتها أرواح بريئة لا يمكن أن يغفل عنها المجتمع؛ والمهم أيضاً أن ندرك أنها في الوقت نفسه تظل تشغل بال وفكر الأطباء، وتقض مضاجعهم، وهي في الحقيقة من أشد ما ينغص حياة الأطباء العملية ويكدرها، كون المريض هو شغلهم الشاغل ومحور الاهتمام الذي لا يختلف عليه اثنان. إن الأخطاء الطبية والتي يجهل مفهومها الكثير هي عبارة عن أخطاء يتم ارتكابها في المجال الطبي نتيجة انعدام الخبرة أو الكفاءة من قبل الطبيب الممارس أو الفئات المساعدة له أو هي نتيجة إجراء عملية خاطئة أو طريقة حديثة وتجريبية في علاج معين أو تكون نتيجة حالة طارئة تتطلب السرعة على حساب الدقة أو هي مشكلة طبية كان من الممكن تلافيها ولكن لم يتم ذلك. هذه الأخطاء والمضاعفات الطبية ليست حصراً على بلد دون آخر، فلك أن تتخيل على سبيل المثال لا الحصر طبعاً عدد الأميركيين الذين يموتون سنوياً –وضع خطين تحت كلمة يموتون- بسبب الأخطاء الطبية والذي يصل إلى قرابة المئة ألف مريض، بينما يعاني قرابة المليون ونصف المليون أميركي بشكل سنوي من تدهور في الرعاية الصحية يعرضهم لتداعيات ومضاعفات أخرى أقلها المكوث في المستشفى لفترات أطول، بالإضافة إلى أن معهد البحوث الطبية التابع لأكاديمية العلوم الأميركية أشار في أحد التقارير الصادرة حول مشكلة الأخطاء الطبية إلى أن التكاليف المادية لهذه الأخطاء تتسبب في أعباء مالية إضافية تقدر بحوالي 38 مليار دولار سنوياً. حينما يتعمد الطبيب إحداث الضرر أو أن يكون جاهلاً في تخصصه أو عندما يرتكب خطأً لا يقع فيه أمثاله ولا تقره أصول المهنة، بالإضافة إلى امتناعه عن أداء واجبه الطبي في حالة إسعافية مثلاً أو حدوث سوء التصرف في حالة مرضية أخرى، فلا شك أن هذا الأمر سيكون وقتذاك خطأً طبياً لا يقبل النقاش وسيكون الطبيب هو وحده المسؤول عن تبعات ذلك الخطأ، ولن يجد من يدافع عن خطئه. أتفق معك عزيزي القارئ على أن إعطاء حقنة خاطئة أو القيام بصرف دواء خاطئ كما هو الحال عند حدوث إجراء جراحي غير صحيح أو إجراء عملية جراحية في عضو خاطئ في الجسم أو نسيان أدوات طبية داخل جسم المريض بعد العملية هي أخطاء طبية من الممكن أن تحدث ولكنها لا تغتفر رغم أن إحداث الضرر لم يكن بشكل متعمد. ومما تجدر الإشارة إليه أن النسيان أو الإهمال والتقصير غير المتعمد والصادر من أحد أفراد الطاقم الطبي لوظيفته وعدم أدائه دوره المنوط فيه لا يعتبر على الدوام خطأً طبياً؛ بل يتم تحري الدقة والتحقق من جميع الجوانب المصاحبة والتثبت قبل إصدار الحكم. ولكن حين يكون الضرر الذي أصاب المريض هو في الحقيقة ليس خطأً طبياً بمعناه الحقيقي، فهنا الأمر يختلف اختلافاً جذرياً وهذا هو صلب الموضوع والغاية من هذا المقال، فمعظم العمليات الجراحية لا تخلو في الغالب من مضاعفات طبية تتفاوت في درجاتها من مضاعفات بسيطة يمكن السيطرة عليها وعلاجها بشكل سريع من خلال بعض الأدوية والمسكنات وغيرها، إلى مضاعفات شديدة تكون عواقبها وخيمة قد تصل إلى الوفاة. وخصوصاً حين يعاني المريض من أمراض مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكر ومشاكل القلب وغيرها، ولكن في المقابل يكون المريض –بدون أدنى شك- قد اطلع وبشكل كامل مع الطبيب المعالج على تفصيل كامل عن الإجراء الجراحي والمضاعفات الطبية المحتملة وبالتأكيد أنه قد قام بالتوقيع على إقرار مفصل عما سيتم إجراؤه أثناء العملية، وهذا الإقرار يؤكد أن المريض على علم تام بما قد تؤول إليه العملية الجراحية وهو من الناحية القانونية قبول واضح وصريح لما قد يحدث من مضاعفات تم ذكرها وتوثيقها، وكذلك الحال في بعض الفحوصات التدخلية التي تتطلب شرحاً للمريض وإقراراً منه بالاطلاع المسبق على كل ما يتعلق بهذا الإجراء كما في حالات الفحص والعلاج بالمنظار وخلافه. إن ما دعاني إلى الكتابة عن هذا الموضوع بالذات، هو ما رأيته للأسف من انتشار الأخبار المغلوطة في بعض الصحف ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والإشارة إلى أغلب المشاكل الطبية بأنها أخطاء طبية دون التثبت أو التروي أو حتى سؤال أهل الاختصاص في هذا المجال، فضلاً عن الدعاوى الكيدية أو الدعاوى للمطالبة بتعويض مادي والتي يمارسها البعض من باب "إن نفعت وإلا فلن تضر!" ليقينه المسبق بأن أقصى ما سيتعرض له لاحقاً هو عدم الحكم لصالحه وتبرئة الطبيب. فأصبح أي تقصير طبي أو مضاعفات طبية طبيعية في نظر الكثير هي أخطاء طبية لا تقبل النقاش! على الرغم من أن مثل هذه المسائل الحساسة أقيمت من أجلها هيئات ولجان متخصصة تضم أطباء متخصصين ومحامين بعضهم من ذوي الاختصاص الطبي. ولك أن تتصور أن ما تحتاجه هذه اللجان من وقت ليس بالقصير وما تتطلبه من الخبرة والتخصص والاستماع لأطراف القضية إضافةً إلى مراجعة ملف القضية سطراً بسطر، اختصره بعض الزملاء الصحفيين أو المراسلين دون خبرة طبية أو دراية بالحالة المرضية في دقائق وصنفوه بالبنط العريض "خطأً طبياً" دون تحري كامل المصداقية في ذلك أو تقصي الأسباب من مصدرها الصحيح، وقد تصل إلى رمي التهم في بعض الأحيان على الطاقم الطبي دون الاستناد على أي رأي متخصص، أو قرار من هيئة طبية مستقلة ومسؤولة، أو حتى لجنة حقوقية محايدة "ناظرة" للقضية عن قرب. ثم إن من المهم ذكره أنه حين يتم البدء بالتحقيق في القضية يطال أطرافها من الطاقم الطبي صنوفاً من الإجراءات الحازمة منذ البدء والنظر في القضية وحتى إقفال ملفها، حالهم كحال "المتهمين"؛ كالمنع من السفر والإيقاف عن العمل. ولك أن تتخيل الضررين المادي والمعنوي للطاقم الطبي آنذاك والمساس بسمعة الطبيب بما لا يليق وأموراً أخرى لا يتسع المجال في هذا المقال إلى التطرق إليها. خلاصة الكلام؛ أن التساهل في نشر هذه الأخبار سيدفع الطبيب ثمنه بلا شك في المقام الأول ثم بعد ذلك سوف تتضرر مع مرور الوقت الخدمة العلاجية المقدمة للمريض، فالتشكيك في أمانة الطبيب وانعدام الثقة فيه سيكون هو الأمر الوحيد الذي سوف نجنيه من مثل هذه الاتهامات السابقة لأوانها قبل التحري والتثبت. لقد أصبح الحديث عن الأخطاء الطبية –للأسف- من فاكهة أحاديث المجالس وأمسى الكثير يصنف وينتقي ما يشاء من تقصير طبي أو مضاعفات طبية أو حتى أعراض جانبية طبيعية ليصفها مباشرةً بأنها أخطاء طبية، ولابد في النهاية أن أشير إلى أن الطبيب يعتبر فرداً مشتركاً ضمن منظومة طبية متكاملة للعناية بالمريض تضم جهاز التمريض والفنيين والأجهزة الطبية وغيرها، فلا تلوموا الطبيب دوماً في كل تقصير وتحملوه كل ما يحدث للمريض، فالمسؤوليات الجسام المكلف بها تكفيه، والحقيقة الغائبة عن الكثير هي أننا نحن -معشر الأطباء- ليس لدينا الوقت الكافي للرد على الاتهامات التي توجّه لنا هنا وهناك، ولا تنسوا حجم الأمانة التي رضي الطبيب أن يحملها بينما أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.