عندما يتوقف السؤال تسقط الإجابة ومداءات الدهشة، وسرعان ما ينجذب العقل للحيرة ويظل يبحث عن وسائل تعيد توزيع الحقيقة واليقين شيئاً فشيئاً. ولا يمكن اعتبار الأحداث التي تتناثر في العالم مصيرية بل مجرد لحظات خالصة تشكل جوهر الحقيقة، وإن كان ظاهرها خداعاً حيّر العقول وقسمها بين الفنون والجنون ومناطق عمياء محجوبة لا يراها إلا الرسام والنحات، ويترك البقية الباقية قيد قائمة تزخر بالآراء المتضاربة والمتناقضة والمشككة، فالحيرة غالباً ما تكون أثراً إنسانياً. وإن كثير من المفاهيم تؤخذ في جوهرها وتتعارض في تأثيرها وخاصة في المجتمعات الأشد بداوة فيكون فيها الانتقال من حالة الحيرة إلى حالة النظام السائد في المجتمع، وفي مواجهة هذا التذبذب والتردد والالتباس، وقد شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته الاستخارة لكي تكون فاصلاً بين طلب الاختيار والحيرة وشرطها انشراح الصدر، وأكد بعض علماء النفس أن الحيرة نتيجة أزمة نفسية إذا تعثرت في تحديد أهدافها، وقد يؤدي ذلك إلى اضطراب سلوكي يحتاج إلى علاج. بينما في الفلسفة تعد الحيرة والقلق أرقى مستويات التفكير والوعي لكثرة الأسئلة والإشكاليات فيها، فقد كان سقراط يسير في الطرقات ويتحدث إلى الناس ليبين لهم مدى جهلهم ويحثهم على التساؤل، فكثير من الأفكار تدور حولنا غائمة تحجب سحبها نور العلم. أما ماعدا ذلك فإن المكانة التي قال فيها أبو عبدالله الرازي: (يضعون البدع في كتبهم وحذر منها أشد التحذير، وخاصة عن الحيرة والشك والاضطراب، ثم أسرف في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره بحيث أنه يحقق شيئاً ويثبت على نوع من الحق، وكان من أبرع المتفلسفين في هذا الباب. ونجد أن الأمر في الخلاف الذي يقل كلما قل المنطق ويكثر ويشتد كلما كثرت مناقشاته واشتدت منازعاته)، وشهد التاريخ للفلاسفة أنهم أعظم اضطراباً وحيرة حتى أن العقائد الكبرى وقعت بين حيرتهم وتشكيكهم ويقين الأنبياء، ولو أخذنا على سبيل المثال أبا الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت وماهية الإنسان فعالم الحواس عالم خداع ومعطيات التجربة غير يقينية، ماجعل الإنسان يؤمن بأن الفكر وحده بإمكانه أن يقنع البشر بقبول الحقائق الدينية. ونستخلص مما سبق أن الحيرة تجبرك على أن تتأمل في تجارب علماء العصور المختلفة وخاصة في فلسفتهم وسعيهم نحو الوصول إلى نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها. ما جعل ديكارت يؤسس عليها فلسفته كلها، وهي وجود الأنا أفكر فقد كان بالنسبة له المبدأ الأول الشبيه بمبادئ الرياضيات التي اعتمدت عليها كل المبرهنات الرياضية التالية، كما سار ديكارت بالطريقة الاستنباطية السائدة في الرياضيات في مذهبه الفلسفي، وقام المنهج الديكارتي على أساسين هما: البداهة التي تصور في النفس السليمة الأنوار العقلية، والاستنباط: في العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها كما كُتب عنه وعن حيرته وشكوكه. فالعلم يبني نظرياته في حوار بين العقل والتجربة حتى وإن كانت نزعة الحيرة نسبية، ومع ذلك نعيش أسلوباً مثيراً للانتباه يأخذنا إلى التساؤل التالي: كيف نؤمن ونسلم بحكم قضائي ونمضي جاهدين لتخليص المحكوم والجمع بين الدية والتعويض وواجب الشريعة والقانون، ألم تكن التجربة حية ومركبة ومعقدة أو إنها تدشن عصراً جديداً من الأحكام القضائية والآلات والأدوات، وبالتالي نستنتج أن هنا وهناك أشياء محيّرة.