كنت تساءلت في المقالة السابقة عن سر شغف الشعراء ببنات البدو مع أمنياتهم بأن يعشن معهم في ظلال الحضارة فهم يعشقون البدويات معجبين بمظاهر البداوة فيهن والتي يرونها من المزايا الفارقة وفي نفس الوقت يريدون الاحتفاظ بهذه المعشوقة بعيداً عنها لا شيء سوى أن حياة الترحال تبعد الأحبة عن بعضهم وتفرّق بينهم بينما حياة الاستقرار تجمعهم بشكل دائم في مكان واحد ولكن نمر بن صنت يتمنى أنه قد تم تعضيبه أي تطعيمه عن رؤية بنات البدو اللائي أخذن لبّه وشغفن قلبه في تلك الصحراء المفتوحة على مدى الأفق إذ قال: ليتهم عضّبوني عن هوى البيض توّي عن تعرض بنات البدو ما لي وما له كل ما قلت عن درب الهوى صدّ نوّي اعترض لي وليفٍ ردني للجهالة وقد عانى نمر بن صنت في دنيا البدويات معاناة المدنف الولهان الذي لا يجد سبيلاً للوصل حتى قال: أودعني بنات البدو مثل اليتيّم الحليب الصناعي يرضعه من هوانه أذهب اللي تشيله بالبكا والتضيّم كل ما صاح هزت عنده القرقعانه ونمر بن صنت مثله مثل صقر النصافي وعبدالمعين بن ثعلي حيث يصف معشوقته فهو يجعل بداوتها هي الميزة الأولى التي جعلته يعشقها وحيث أن البداوة والإبل ثنائية لا تنفصل فقد ربط هذه المعشوقة بالإبل أيضاً نافياً أي مظهر من مظاهر الحضارة حتى في طعامها إذ قال: يا صاحبي ما غذي بالفول غاذينها مع حويّرها حقي على صافي المجدول آخذ خفايا سرايرها وقال: وليا أصبحت عقب الحويّر خذت كاس ما تشرب الشاهي على فكة الريق العين سودا كنها عين قرناس يبغى الطيار ولا عطوه المسابيق والعجيب أنه في نفس الوقت الذي ينفي فيه العاشق البدوي مظاهر الحضارة عن معشوقته ويعتبر عدم تواجدها في معشوقته البدوية نجد الشاعرة البدوية تنفي مظاهر الحضارة عن معشوقها وتعتبر عدم اشتغاله بها ميزة له على غيره من العاملين حيث قالت بخوت المرية: ما بشفّي لا دريول ولا ريّس عمل شفّي اللي كل ما شاف براق رعاه صبيٍ أهله قطين على عدٍّ جاله عبل طيّبٍ للبل وراعيه ما يقطع ظماه بل أن بعض البدويات تجاوزن ذلك إلى درجة الكراهية المطلقة لمظاهر التحضر والهيام بحياة البادية إذ قالت جوزا الحربية: عزّي لمن يقعد على المكرهيه عزّي لمن يمشي على غير نوماس أبا اتمنى عشر ما هي رعيه وامشي مع البدوان عن كسرة الباس وبعد.. فإن القصص والشواهد كثيرة على كون البدويات يعتبرن سكناهن في الحضر سجناً حيث قالت إحداهن عندما تزوجت حضرياً وسكنت في إحدى القرى: قل له تراي من السعة طحت في الضيق كنّي بحبسٍ في طويل المباني فمن كان يعيش في مساحة باتساع الأفق بحرية تامة لا لوم عليه إذا اعتبر وجوده بين الجدران التي لا يتم الدخول إليها أو الخروج منها إلا عبر الأبواب المغلقة مشابهة لحال السجين!! فهذه الحرية ميزة لا تنعم بها بنات الحضر وبالتالي فمشاهدة بنات البدو في الصحراء وخاصة عند موارد المياه هي التي جعلت الشعراء يتغنون بهن. ولعلنا نستوفي جوانب أخرى من هذا الموضوع في قادم الأيام بإذن الله.