صورة آلة تسجيلٍ ذات سعة تخزينية هائلة هي الصورة التي تستدعيها أذهان كثير من الناس عند ذكر راوي الشعر، فالصورة النمطية التي ترسخت عبر الزمن لراوي الشعر هي أنه أداة لتخزين قصائد شاعر مُعين أو مجموعة شعراء وإعادة إنشادها في مُناسبات مُختلفة حسب استعداد أو طلب المستمعين، وقد تكون صورة واقعية وصحيحة لفئة من الرواة بالتأكيد، لكنها لا تُمثل إلا جانبًا واحدًا من جوانب التميز لدى رواة الشعر. وقد عُني بعض الباحثين بالتنبيه على الأدوار المتعددة والمتميزة لراوي الشعر، وبالإشارة إلى أدواره ومهامه التي تتجاوز دور الوعاء الذي ينقل رسالة الشاعر إلى المتلقين. من أولئك الباحثين الدكتور أحمد الودرني الذي توقّف وقفة قصيرة وعميقة عند مسألة الرواية في سياق بحثه عن علاقة البحتري بأستاذه أبي تمام، وذكر أن "حظ الرواية من العناية والدرس قليل. فقديما لاح الرّاوي ظِلاً للمبدع وخادمًا له ووعاء لنصوصه، يتبعه في ظَعنه واستقراره ويتفانى في الوفاء لأشعاره يحملها في صدره ويذود عنها خطر النسيان والدثور. وظلّ دور الراوي –حديثًا- يلقى الإهمال نفسه في إطار إغفال دور القارئ عامّة في العملية الإبداعية بالانصراف إلى المبدع والانشغال بنصّه، فلاح الراوي أيضًا مجرّد ظل للباث يحذوه ويضرب على غراره في اعتماد المسلك. أكُتب على الراوي أن يكون باثًا-ظلاً؟ أليس الرّاوي قارئًا متميزًا؟ ألا يعكس الراوية موقفًا واعيًا من النص قبل أن تكون ترديدًا باهتًا لأشعار الغير أو نسجًا رتيبًا على منوال نموذج ما؟". بعد الإشارة لصورة الراوي الظِل التابع للشاعر وطرح هذه التساؤلات يؤكد الودرني على أن الوجه النقدي هو أحد وجوه مُهمّة الراوي، كما أكّد أن "الرواية عمليّة ذهنية واعية تمر بالتذوق فالاستيعاب والإحاطة ثم النظر الوئيد فالقراءة ثم الإبداع، فهي إذن تقويم للنص المروي، لذلك مثّلت مرحلة هامّة دقيقة يعيشها أي مبدع قبل البدء في الكتابة". ويؤيد كلام الودرني أن كثيراً من الشعراء الكبار كانت رواية الأشعار خطوة أولى تمهّد لدخولهم لمدرسة الشعر والتفوق فيما بعد، إضافة إلى الأخبار العديدة التي توضح التزام الراوي بدور الناقد والمقوم لإنتاج الشعراء في كثير من المواقف، ومن ذلك أن خلف الأحمر انتقد بيتًا لجرير سمعه من تلميذه الأصمعي قائلاً: "كان قليل التنقيح مشرّد الألفاظ" الأجود لو أنه قال: *فيا لك يومًا خيرُه دون شرّه* وأمر الأصمعي برواية البيت بصيغته الجديدة مُبررًا ذلك بالقول:"كانت الرواة قديمًا تُصلحُ من أشعار القدماء". ومن ذلك أيضًا ما روي عن ابن مقبل أنه قال: "إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرواة بها قد أقامتها". وتنقيح الأبيات وتقويم اعوجاجها مُهمة نقدية اضطلع بها الرواة قديمًا رغبة في تقديم القصيدة للمتلقي في أكمل وأجمل صورها، مع أن هذا التصرف أدى لاتهامهم بالتحريف والتزوير وعدم الأمانة. أخيرًا يقول عفاس بن حرباش: فغيابها ماني بقابل عوضها ويش العوض لا صارت الغايبه هي؟ العالم بشعري تصالح بعضها وأنا أكتبه فيها ولا جابها لي