لم تكن الأسر لدينا قديماً تعرف دخول شخص غريب عليها يأكل مما تأكل، ويحتل جزءاً من المنزل يبيت فيه على الدوام ويتقبله أهل البيت، وهو ليس بضيف يحل أياماً ويرحل بل قد يبقى لسنوات طويلة، والعجيب في الأمر أن الأسر في وقتنا الحاضر باتت تتقبل وجوده بينهم، وقد يتساءل البعض من هو هذا الشخص الذي صار جزءاً من العائلة وملازماً لها كظلها؟، إنه الخادمة التي صارت اليوم لدى عدد كبير من الأسر من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، وعند رحيلها تجد التذمر بادياً على جميع أهل البيت من صغيرهم إلى كبيرهم، فقد تعودوا عليها وأورثت في نفوسهم الكسل والاتكال. وبالعودة إلى الماضي القريب قبل أقل من نصف قرن نجد أن كل أمور المنزل وتدبيره يقع على عاتق ربة البيت، فهي التي تخدم الزوج والأبناء، وهي التي تبادر بالاهتمام بالمنزل وتهيئة الجو المناسب لساكنيه، فتتعدد مهامها المرهقة بدءًا من التنظيف والغسيل إلى الطبخ، هي كما يقولون: "تطبخ وتنفخ"، إضافةً إلى تربية الأطفال والعناية بهم ونظافتهم وإطعامهم والسهر على راحة الجميع، بل ولم تشتكِ يوماً وتطلب أحداً يعينها، والمحظوظة منهن من رزقها الله ب"بنيّات" يساعدنها على هذه الأعباء قبل أن ينضجن ويتزوجن فتعود المعاناة من جديد، وإن كانت تقل بعد أن يكبر الأبناء ويشقوا طريقهم فتتفرغ إلى خدمة الزوج والعناية بالمنزل. قبل الخادمة ضرب جيل الأمهات في السابق أروع الأمثلة في فن إدارة المنزل وخدمة جميع ساكنيه بالتفاني في العمل، فقد كانت المرأة سنداً قوياً لشريك حياتها، وإضافةً إلى خدمتها من الطبخ والتنظيف وتربية الأطفال تساعد زوجها في عمله في الفلاحة مثلاً، فتذهب معه إلى الحقل وتزرع وتقطف الثمار وتسقي وغيرها من أمور الفلاحة التي كانت هي مهمة معظم الناس قبل أن يعرفوا الوظائف الحكومية، وقد تصنع الغداء وتذهب به إلى زوجها في المزرعة وتؤدي بعض الأعمال، بينما يلتقط أنفاسه ويتناول الطعام ليقتل الجوع الذي أجهده وجعل قواه تخور من التعب، وبعد أن يشبع جوعه تقفل راجعة إلى منزلها وتترك العمل لزوجها في حقله لتعود لإكمال مهمتها في المنزل لرعاية الأبناء الذين تركتهم في رعاية أخيهم أو أختهم الكبرى إلى عودتها، كانت حال الناس في ذلك واحدة، وإنك عندما تقارن حال المرأة فيما سبق بحالها الآن لتجد العجب العجاب، ففي حين تتذمر ربة اليوم من أعباء المنزل مع قلة الأولاد، فكيف يمكن أن تتصور حالة المرأة في السابق التي لا تكاد تلتقط أنفاسها من ألم المخاض والولادة حتى تمر بمرحلة حمل جديدة تضع بعد شهور مولودها الجديد قبل أن يبلغ أخوه الذي سبقه سن الفطام، وربما "تحبل" المرأة وتلد أكثر من اثني عشر مولوداً بانتظام فلا موانع للحمل تستخدم ولا مجال للراحة، فهي دائم في عمل دؤوب، وليس الأمر مقتصراً على رعاية الأولاد، بل إلى رعاية الزوج وخدمته والعمل على شؤونه، والعمل على الطبخ، خاصةً في المناسبات، حيث تتولى طبخ ذبيحة كاملة وتعد الطعام للضيوف، ومنذ الصباح تتولى تهيئة الأطفال للذهاب إلى المدرسة، بينما تسهر على تطبيب المريض من أطفالها طوال الليل فلا يهنأ لها جفن، وهكذا فهي في كدح مستمر ليلاً ونهاراً، بل إن منهن من تؤدي الأعمال خارج المنزل وهي حامل، كالرعي وجمع الحطب فيفاجئها المخاض فتلد في البرية وتقدم إلى البيت ماشيةً لوحدها ومعها مولودها الجديد. تغير الظروف لعل أول انتشار للخادمات في البيوت كان منذ أربعة عقود وذلك بعد "الطفرة" التي عرفتها البلاد، والتي أدت إلى تحسن الدخل الذي انعكس بدوره على جميع نواحي الحياة، حيث تغيرت المنازل على سبيل المثال من الطينية إلى الفلل الحديثة، التي زادت مساحاتها أضعاف بيوت الطين، وعرف الناس فرش الغرف ب"الموكيت"، وتم تركيب الستائر للنوافذ، وبدأت أنواع جديدة من الأثاث تظهر لم تكن موجودة من قبل في غرف الجلوس والمطابخ وكافة جوانب المنزل، الأمر الذي صاحبه الحاجة إلى المزيد من الجهد من أجل النظافة، وكذلك فتح المجال أمام الخريجات من النساء في كليات التربية ومعاهد المعلمات للعمل في مجال التدريس، خاصةً الذي استوجب وجود من يرعى الأطفال في غياب المرأة عن بيتها لأكثر من ست ساعات يومياً، إضافةً إلى أداء أعباء تنظيف المنزل، وإعداد الطعام والذي لا تستطيعه ربة المنزل بعد يوم عمل مرهق، مما جعل الحاجة إلى استقدام الخادمات من الخارج أمرا لابد منه، وبذلك فتح باب الاستقدام على مصراعيه، حيث كان في البداية مقتصراً على القصور الكبيرة والناس الأثرياء فقط، ثم صار الأمر معلقا بالحاجة الفعلية للمرأة العاملة ثم صار لجميع الأسر كثيرة العدد. شروط الاستقدام تغيّرت مع تحسّن التعامل وبقي تأشيرة وسفر كان من يرغب في استقدام خادمة يستخرج "تأشيرة عمل" من وزارة العمل، ومن ثم يُسافر بنفسه إلى خارج البلاد ويختار الخادمة التي يريد من أحد مكاتب الاستقدام بالخارج التي تعرض على من يرغب الاستقدام العديد من الخادمات، فيختار من يرى فيها الكفاءة للخدمة ومن ثم يُنهي المكتب إجراءات استقدامها، ومن ثم يشتري لها تذكرة ويخبر المستقدم بوقت وصولها إليه عن طريق المطار، ومن أكثر الدول التي كانت مقصداً للمستقدمين هي "تايلند"، التي تمتاز فيها العمالة المنزلية بالمهارة والقبول من حيث التعامل والعقود، وكان هناك دولة أخرى تمتاز بمهارة عمالتها ولكن لعدم وجود سفارة للمملكة فيها آنذاك فقد كان من يرغب الاستقدام منها يستخرج "فيزا عمل" ويشد رحاله إلى دولة البحرين، ومن هناك يستطيع الذهاب إلى مكاتب الاستقدام ويملي شروطه التي يريدها في الخادمة، ومن ثم يعرض المكتب العديد من الموجود لديه من الخادمات فيختار إحداهن ومن ثم تستكمل إجراءاتها في أيام معدودة ليرجع بها إلى منزله فوراً. إصدار الأوامر وكانت العاملة المنزلية التي تستقدم من خارج المملكة للعمل تجهل قوانين وعادات الأسر السعودية، حيث تأتي كاشفة الوجه، لذلك كانت الأسر تحرص على جلب عباءة معها عند استقبالها في المطار من أجل أن تلبسها فوراً قبل أن تغادر المطار إلى المنزل، وفي السيارة تعمل ربة المنزل التي تصاحب زوجها عند احضارها بعملية تقييم سريعة لهذه الخادمة من حيث السن ودرجة الجمال وطريقة الكلام والأفكار، وتبدأ معها عملية إصدار الأوامر التي من أهمها هو ارتداء العباءة عند الخروج من المنزل والتستر الكلي خلال العمل في المنزل وعدم التحدث أو التواصل مع الرجال، بل يكون الأمر مع ربة البيت التي هي المسؤولة عن تلبية جميع احتياجاتها، كما أن مكان تواجد الخادمة مقتصر على المطبخ وأي مكان توجه لتنظيفه فقط، فقد كانت النساء حريصة على صيانة الرجل وشبان البيت من الاختلاط بها حرصاً عليهم، كما كانت تجعل غرفة نومها قريبة من غرفتها لمراقبتها على مدار الساعة، وقد كانت النساء حريصات على إقفال المنزل حال الخروج منها وتركها وحدها خوفاً من خروجها بلا علمهم أو ادخال أحد لأي غرض. تحويل ورسائل كانت البداية في استقدام الخادمات بسيطة جداً في ذلك الزمن، حيث تستلم في الشهر (350) ريالا، وأكثر خادمة لا يتجاوز راتبها (600) ريال، وكانت رواتبها تحول كل بضعة أشهر، وكانت طريقة التواصل الوحيدة بين الخادمة وذويها في الخارج عن طريق الرسائل فقط، فلم تكن الخادمة تطلب الاتصال بالهاتف، ولم يكن هناك "جوالات" أو أي أجهزة تواصل بل الرسائل البريدية فقط، وكم تكون سعادة الخادمة كبيرة في اليوم الذي تصلها رسالة من أهلها، ففي ذلك اليوم إن كان في الرسالة خبر سار لها فإن المنزل سيبدو أكثر نظافة وترتيباً، أمّا إذا كان في الرسالة خبر غير سار فإن ربة المنزل تعلم بذلك، من خلال مكوثها لساعات في غرفتها دون عمل، إن لم يصاحب ذلك بكاء أو تشكٍ وتسخط، وقد ساهم عدم توفر الاتصال في ذلك الوقت في استمرار الخادمات في العمل لسنوات دون الحاجة إلى إبداء رغبة السفر بعد عدة أشهر من العمل. شهور التجربة بعد أن يراجع طالب الاستقدام المكتب الذي يريد فإنه يبرم معه عقداً يحدد فيه أهم شروط المستقدم التي يجب توافرها في الخادمة، ومن أهمها تحديد العمر بحيث يكون متوسطا يميل إلى الصغر لتتمكن من العمل بحيوية ونشاط، وأن تكون قوية البنية وطويلة وممن سبق لها العمل، وأن تجيد الأعمال المنزلية والطبخ، وعند الشكل يكاد يتفق جميع المستقدمين على أن تكون مقبولة، ونادراً ما تجد من يشترط أن تكون جميلة، وبعد الاتفاق على الشروط بين الطرفين خاصةً الراتب يشترط المكتب على المستقدم فترة لوصول الخادمة من شهر إلى ثلاثة أشهر مثلاً، ولا يحق للمستقدم أن يطالب بوصول الخادمة قبل ذلك، وبعد مضي الفترة يحق للمستقدم المطالبة بمبلغ غرامة تأخير عن كل يوم، ويكون غالباً ثلاثين ريالاً عن كل يوم تأخير، وبعد قدوم الخادمة يمهل المكتب المستقدم ثلاثة أشهر لإرجاع الخادمة إذا رفضت العمل أو تبين عدم مطابقتها لشروط المستقدم، وبعد مضي هذه الثلاثة الشهور التي تسمى فترة التجربة يتنفس المكتب الصعداء، حيث لا يحق للمستقدم مطالبة المكتب ببديل لها إذا رفضت العمل أو أخلت بشروط العقد، ليُسفرها المستقدم على حسابه الخاص، وكم تكون الثلاثة أشهر عصيبة على الأسر في تقبل تلك الخادمات اللاتي قد تم افهامهن بشروط العقد وتوعدهن من قبل مكاتب الاستقدام في بلدانهم بعدم رفض العمل في الثلاثة شهور الأولى، فالبعض منهن ما إن تستكمل الثلاثة أشهر حتى تعلن عن عدم رغبتها في مواصلة العمل وترفض ذلك بالكلية، بل وتطالب بترحيلها إلى بلدها فيُسفرها الكفيل على حسابه الخاص مجبراً، وقد ترفض إحدى الخادمات العمل خلال فترة التجربة، فيرجعها كفيلها إلى مكتب الاستقدام، ليُفهمها المترجم بأنه يجب أن تكمل مدة التجربة ويهددها لتذعن ومن ثم يعيدها المكتب إلى كفيلها زاعماً أنه قد تمكن من حل مشكلتها، وبالفعل ترجع للعمل لأسابيع وبعد انتهاء الثلاثة أشهر تضرب عن العمل وتطالب بترحيلها فيقع المستقدم ضحية تلاعب مكاتب الاستقدام فيخسرها ويخسر قيمة الاستقدام وأجور تذكرة الترحيل، ليقدم على خادمة أخرى من مكتب آخر بعد أن يسأل عنه من سبقه إلى الاستقدام. هاجس الهرب والمرض مستمراً رغم شروط الاتفاق مشكلة الهروب ومن أكثر ما يقلق الأسر من الخادمات هو قضية الهروب من المنزل، حيث يحصل ذلك دون مقدمات، فما إن تجد الخادمة إلى ذلك سبيلاً حتى تطلق ساقيها للريح، فالبعض منهن تغريها بعض موجودات البيت من النقود والمجوهرات فتسرقها وتهرب، أو تجد من يغريها للهرب للعمل في مكان آخر بضعف الأجر الذي تتقاضاه، وبعد الهروب يتم توزيع الخادمات على المنازل المحتاجة للخادمات بأضعاف راتبها الأساسي، ويتم تقاسم المبلغ من قبل الخادمة ومن أغراها بالهروب سواءً كان رجلاً أو امرأة ، الغريب أن البعض يتقبل ذلك ويجعلها تعمل لديه ويستأمنها على منزله أثناء غيابه، والمفروض منه التبليغ عن هؤلاء المتسترين للقضاء على ظاهرة الهروب قطعياً، لكن البعض دفع ثمن سكوته وعدم التبليغ غالياً حيث تعمل لديه الخادمة المستأجرة بالشهر وبعد انتهاء فترة حاجتها تعاد إلى أصحابها، وتكون قد رسمت في ذهنها "كروكيا" للبيت وعرفت مكان الأشياء الثمينة كالنقود والمجوهرات ووقت غياب أصحاب المنزل، وربما حصلت على نسخة من مفاتيح المنزل، فتقدم تلك المعلومات القيمة للعصابة التي تعمل لديها، مما يصعّب على من يتتبع القضية من الجهات المختصة اكتشاف الجريمة. تزوج الخادمة حنّت ربة منزل على زوجها ليل نهار من أجل أن يسمح لها باستقدام خادمة لتساعدها على أعباء المنزل كزميلاتها في العمل، لكنه كان يرفض، ولمّا ألحت عليه وافق بشرط أن يذهب هو إلى بلادها ويستقدمها بنفسه، فوافقت زوجته بفرح، سافر الزوج واختار خادمة واستقدمها فقرت عين الزوجة وشكرته على ذلك، لكن بعد مضي أيام نبا إلى علمها بأن زوجها يعود من عمله إلى المنزل قبل الظهر على غير عادته ويخرج عند أذان الظهر ويعود إلى عمله فدبّ الشك في نفسها، فكيف يعود ولا يجد سوى الخادمة، فقررت التأكد من ذلك وفي ذات يوم اتصلت بأخيها قبل الظهر وطلبت منه أن يأتي إليها في مقر عملها، ولما وصلت هناك وجدت سيارة زوجها واقفة فدخلت مندفعة فلما رأته قالت وهي ثائرة: "ما الذي يجعلك تأتي إلى المنزل يومياً في غيابي، حيث لا يوجد سوى الخادمة؟"، ففاجأها وصعقها بقوله: "إنني آتي إلى زوجتي الثانية، وهي الخادمة، إنني لم أوافقك على الاستقدام حتى وافقت أن أحضرها أنا، فسافرت وتزوجتها وقدمت بها إلى العمل، وهذه أوراق إثبات الزواج، فما كنت لأسمح بدخول امرأة أجنبية إلى منزلي وأنتِ التي أجبرتني على الزواج منها، والحل مازال بيدك، فهل لازلتِ ترغبين ببقاء الخادمة؟"، فقالت: "لا، بل طلقها وأرجعها إلى بلدها ولن أطالبك بخادمة بعد اليوم"!. وفي قصة أخرى، سمع أحد المستقدمين للخادمات عن كثرة تغيّر طباع الخادمات بعد ورود رسائل من أهاليهن عبر البريد، فصار كلما جاءت رسالة خبأها بينما كانت الخادمة تسأله في كل فترة بقولها: "بابا ما فيه رسالة"، ليجيب بالنفي، وبعد مرور مدة العقد وهي العامان سلّم الخادمة في المطار قبل مغادرتها ظرفاً به جميع الرسائل التي وردتها، وقال: "استمتعي بقراءتها في الطائرة"!. شروط تعجيزية والملاحظ في هذه الأيام كثرة مشاكل الخادمات، حيث باتت بعض الدول تضع شروطاً تعجيزية للاستقدام، إضافةً إلى غلاء الرواتب، ووصلت مدة الاستقدام التي كانت لا تتجاوز فترة قصيرة إلى ستة أشهر وربما سنتين، كما زادت رسوم مكاتب الاستقدام، والتي تجاوزت (20) ألف ريال، حتى صار متوسط ما يصرف على الخادمة شهرياً أكثر من ألفي ريال، ويكتمل عقد المشاكل بهروب الخادمة أو إساءتها إلى أسرة مكفولها بالتعذيب والأذى الذي ربما يفضي إلى الموت، مما جعل أمر الخدم اليوم مشكلة تحتاج إلى تدخل وحل عاجل يكفل لكلا الطرفين حقوقهما بالتساوي. الأم في الماضي أدت أدواراً كبيرة في المنزل ولم تتذمر امرأة تعمل وبجوارها ابنتها لتكتسب الخبرة في أعمال المنزل امرأة البادية لم تثنها المشقة عن أداء ما عليها من واجبات أُسرة في الماضي ويظهر انشغال الأم والأبناء بأدوارهم المطلوبة