من بين المعطيات العديدة التي توحي بها الأوامر الملكية الأخيرة، معطى له أهميته البارزة على مستوى تحديث السياسة الداخلية للدولة، ألا وهو زحزحة الموروث البيروقراطي الذي لا يمكن لأحد أن ينكر دوره السلبي في تعطيل، أو إبطاء التنمية، أو التأثير سلباً على جودة مخرجاتها. من أبرز مؤشرات الإرادة الملكية الجادة لمحاربة البيروقراطية، إلغاء اثني عشر مجلساً أعلى، ولجنة عليا، وهيئة، يختص كل منها بمعالجة ورسم حدود ومنطلقات سياسة الدولة داخلياً من خلال المجال الموكول إليه/إليها. ولقد أجدني متحيزاً إلى فئة تنظر إلى تلك المجالس العليا والهيئات بعددها الكبير، بأنها كانت ذا أثر سلبي بحمولتها البيروقراطية الثقيلة، على التنمية بمفهومها الشامل. ذلك، أننا لا نعدم أن نستصحب نماذج كثيرة من الواقع العملي، تشهد لوجود سلبيات ما فتئت تصاحب أداء تلك المجالس واللجان، خاصة منها ما يمدد بسبب مباشر إلى المواطن، سلبيات تتمثل في بطء اتخاذ القرارات، نتيجة لاضطرارها إلى المرور في دهاليز بيروقراطية عدة داخل المجلس أو اللجنة نفسها، بالإضافة إلى ما قد تتصف به قراراته/قراراتها من عدم قدرة على الإحاطة بكافة حيثياتها، نتيجة اختصاصه/اختصاصها بجانب واحد فقط من جوانب السياسة الداخلية، الأمر الذي يفقدها ميزة استصحاب حيثيات أخرى تتصل بموضوع القرار ذاته، ولكنها لا تدخل ضمن نطاق اختصاصه/ اختصاصها. وبالإضافة إلى ما سيترتب على إلغائها من تخفيف للبيروقراطية، فسيترتب عليه أيضاً تخفيف للهدر المالي، نتيجة ازدواج النفقات الذي قد يحدث بسبب تداخل الأجهزة أو المجالس أو اللجان أو الهيئات المسؤولة عن المجال محل البحث. تأسيساً على ذات الهدف، أصدر الملك سلمان أمره بدمج وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي في وزارة واحدة تحت اسم(وزارة التعليم)، للحد ربما من بيروقراطية القرار التعليمي، كأساس وركيزة للتنمية. ولربما لا تزال هناك أجهزة أخرى بحاجة إلى دمجها في وزارات أو مؤسسات أخرى تتفق وإياها، أو تتشابه في تقديم الخدمة، كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي من الممكن إلحاقها إما بوزارة الشؤون الإسلامية، بوصفها، أعني الهيئة، جهاز إرشاد، وإما بوزارة الداخلية، بوصفها جهاز حسبة لا تختلف مهماته كثيراً عن مهمات رجال الأمن. قد يكون من المناسب في سياق الحملة السلمانية،(نسبة للملك سلمان حفظه الله)،على البيروقراطية، أن نشير إلى أن من أهم عوامل محاربة البيروقراطية، ما يتصل بتيسير صرف ميزانيات الجهات الحكومية ذات الصلة المباشرة بخدمة المواطن، أو تلك التي تقدم له خدمات تتصف بضرورتها وسرعة تقديمها ولقد يكون من المناسب في سياق الحملة السلمانية،(نسبة للملك سلمان حفظه الله)،على البيروقراطية، أن نشير إلى أن من أهم عوامل محاربة البيروقراطية، ما يتصل بتيسير صرف ميزانيات الجهات الحكومية ذات الصلة المباشرة بخدمة المواطن، أو تلك التي تقدم له خدمات تتصف بضرورتها وسرعة تقديمها. وتيسير الصرف لا يتأتى إلا بأن تكون لهذا الجهاز الحكومي أو ذاك ميزانية مستقلة تصدر من وزارة المالية مباشرة. ففي الميزانية المستقلة سهولة في طرح المشاريع، وسهولة في التعاقد، وسهولة في الصرف، وسهولة في المناقلات بين الاعتمادات، سواء الداخلية منها، أو ما يكون من ضمن صلاحية وزير المالية. وكنت قد كتبت سابقا إلى حاجة بعض فروع الوزارات، إلى أن تكون لها ميزانيات مستقلة، للتخفيف من القيود التي تكبلها بها إياها الوزارات التي ترتبط بها مالياً وإدارياً. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الاستقلال الإداري ليس مهماً هنا بقدر أهمية الاستقلال المالي، المتمثل في تخصيص ميزانيات مستقلة، إذ يمكن أن يكون الجهاز/الفرع مستقلاً مالياً، وتابعاً إدارياً، كما هو حال الأمانات والبلديات التي هي مستقلة مالياً، لكنها إدارياً تابعة لوزارة الشؤون البلدية والقروية. وتأتي مديريات الشؤون الصحية بالمناطق من أبرز فروع الوزارات التي تحتاج، في تقديري، إلى منحها استقلالاً مالياً عن وزارة الصحة، باعتماد ميزانيات مستقلة لها، بل إني أكاد أقول إنها أكثر إلحاحاً من غيرها على هذا الاستقلال، لكونها مسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية، العلاجية منها والوقائية، لسكان المدن والمحافظات والمراكز. والخدمة الصحية، خاصة منها خدمة الرعاية الصحية الأولية، والخدمات الوقائية، وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية، خاصة أدوية ومستلزمات المراكز المتخصصة، كمراكز أمراض وجراحة القلب، وكمراكز علاج الأورام ومثيلاتها، والتي تحتاج إلى سرعة تأمينها، إذ قد يترتب عليها إنقاذ حياة مريض. وذلك لا يتأتى في ظل استمرار تلك المديريات مرتبطة مالياً بوزارة الصحة. إذ لمّا يزل هذا الربط يسبب الكثير من المشكلات للمديريات، نظراً لعدم قدرتها على التصرف المستقل من جانبها، كونها تحتاج، في وضعها الحالي، إلى أخذ موافقة وزارة الصحة على مشاريعها وبرامجها، حتى وإن كانت تلك المشاريع والبرامج مدرجة بميزانية وزارة الصحة بأسماء قطاعات صحية تابعة لتلك المديريات. بل وحتى في حالة تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية، تحتاج المديريات إلى أخذ موافقة وزارة الصحة مسبقاً، على الأقل من ناحية الارتباط على المبالغ اللازمة لها من اعتمادات ميزانية وزارة الصحة. بل إنه حتى على مستوى النفقات التشغيلية السنوية، ليس للمديريات إلا ما تخصصه لها وزارة الصحة من بنودها المعتمدة في ميزانيتها. ولقد نتبين إحدى أبرز سلبيات عدم الاستقلال المالي للمديريات إذا علمنا أن من بين بنود النفقات التشغيلية المدرجة في ميزانية وزارة الصحة،(بند رقم 223 الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية)، والذي تؤدى عليه نفقات تتصل مباشرة بتأدية الخدمة الضرورية العاجلة للمريض، مثل الأدوية والمستلزمات الطبية، فهذا البند رغم أهمية ما يؤدى عليه بالنسبة للمريض، إلا أنه ليس للمديريات منه إلا ما تخصصه لها وزارة الصحة. ثم إنه لكونه بنداً سنوياً ينتهي بنهاية السنة المالية، بغض النظر عن صرف ما اعتمد عليه من مبالغ أم لا، فإن وزارة الصحة، ربما تأخرت في الصرف منه، رغم ضخامة المبلغ المرصود له عادة، وحين يباغتها قرب نهاية السنة المالية، تقوم بتخصيص ما تبقى من نفقته وهي كثيرة، على المديريات، وتحثها على سرعة إنفاقها قبل نهاية السنة المالية، فتضطر المديريات، إما لمخالفة نظام المنافسات والمشتريات الحكومية ولائحته التنفيذية، بتجزئة مشترياتها وتأمينها بالشراء المباشر، لكون الوقت لا يسمح لها بطرحها في منافسة عامة، وإما أن تقوم بتأمين ما قد لا تحتاجه، وتترك ما تحتاجه، ليس تعمداً منها، بل لأن ضيق الوقت لن يسمح لها بترتيب أولوياتها. ولو كان لها ميزانيات مستقلة، لرتبت أولوياتها منذ بداية السنة المالية. هذا ما يخص بنداً سنوياً واحداً من بنود التشغيل المدرجة في الباب الثاني من أبواب الميزانية، فما ظنكم بالمشاريع والبرامج المدرجة على البابين الرابع والثالث، والتي تقوم عليها البنية التحتية لمنظومة الخدمات الصحية؟ وليس من المعقول أن تعطى بلديات فرعية من فئة(ه) استقلالاً مالياً، تصدر لها بموجبه ميزانيات مستقلة عن ميزانية وزارة الشؤون البلدية والقروية، ولا تعطى مديريات الشؤون الصحية التي تتعامل مع أغلى ما يملك الإنسان وهي صحته، مثل هذا الاستقلال المالي. وهذا لا يعني أني لا أعتقد بصواب استقلال البلديات مالياً، بل على العكس، أراه خطوة موفقة آتت ثمارها ولمّا تزل، لكني أضعها في موضع المقارنة مع مديريات الشؤون الصحية من حيث أولوية الخدمة التي تقدمها كل منها. لهذا الأمر، فإني أرى أن من المناسب الإسراع في منح مديريات الشؤون الصحية بمناطق المملكة استقلالاً مالياً، وعلى الأقل: مديريات العموم، فهي بأشد الحاجة إليه، كونها تتعامل مع مريض ينشد العافية، وليس مع طالب أرض، أو تخطيط سكن، أو اعتماد مخطط، وهلم جرا! لمراسلة الكاتب: [email protected]