التحق الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز بالرفيق الأعلى صباح أمس الجمعة، في وقت كانت أفئدة شعبه معلقة بالمستشفى الذي يرقد فيه، مترقبة همسة من هنا وهمسة من هناك تعطيهم أملا بأن أعينهم ستكتحل مرة أخرى برؤيته مغادرا إلى حيث يسوس شعبه بالعدل والإحسان، إلا أن قدر الله تعالى حال بينهم وبين ما يشتهون، وتلكم سنة الله في الأولين والآخرين" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة". يموت العظماء جسديا لكن أعمالهم العظام تبقى شاهدة على خلودهم في التاريخ الإنساني، ذلكم التاريخ الذي لا يخلد في سجلاته سوى الأفراد الذين أبوا إلا أن يكونوا استثناء من سجل الحياة الرتيب. هذا الاستثناء الذي دائما ما يعطي التاريخ الإنساني فسحة من أمره للتوقف عن سيره النمطي قصْدا لتسويد صفحات خاصة للشخصيات التي أثرتْ أيامه ولياليه بأعمالها العظيمة وإصلاحاتها الفريدة. وفقا لهذه العلاقة الجدلية بين التاريخ، ومن يستحقون أن يُكتبوا في سجلات الخالدين فيه، فإن تلك السجلات لم تكن لتحتفظ إلا بقلة من النابهين الذين تركوا بصمتهم بمنجزات وعطاءات أفادت البشرية جمعاء، بصفتها أعمالا من النوع الذي لا يتكرر إلا نادرا في التاريخ، وإلا فإن أيام التاريخ المتصرمة تضم كثيرا ممن سجلوا إنجازات إنسانية، إلا أن أفرادا قليلون هم أولئك الذين أجبروه على أن يتوقف عن سيره الأبدي برهة ليلتفت إلى حيث عظمة تصر على أن يكون لها مسار مختلف في صفحاته، حيث يبرز خلودهم شاهدا حين التعرض لذكرهم. الراحل العظيم عبدالله بن عبدالعزيز لم يكن من أولئك القلة الذين سيخلدهم التاريخ فحسب، بل إنه من قلة القلة، أو استثناء من الاستثناء، فخلال فترة حكمه القصيرة التي امتدت لعشر سنوات ونيف، لم يكن ثمة هَمٌ يسيطر عليه وينغص عليه حياته، كما هو هم رفعة شأن شعبه، ثم تعميم السلام والأمن والطمأنينة في ربوع العالم المضطرب. لقد شهدتْ فترة حكمه تطورا نوعيا في الارتقاء بقيمة الإنسان بما هو إنسان. لقد جمع رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان بين الأصالة والمعاصرة، الأصالة ممثلة بالحفاظ على مقاصد الشريعة بصيانة حيوات شعبه وأموالهم وأعراضهم وعقولهم ودينهم، والمعاصرة التي تأخذ مما جد من علوم ومعارف وخبرات لا تتضاد وتلك المقاصد، ولعمري فإن الراحل العظيم خير من جمع هذا الجمع النادر بين أصالة دينية ومعاصرة دنيوية. وبرغم أن فترة حكمه رحمه الله تعد قصيرة جدا، مما لا يمكن القول بأنها كافية لزعيم أن يبتدع ما قد يخلد اسمه، خاصة من يحكم شبه قارة كالمملكة، إلا أن المتابع المنصف لا يجد مناصا من أن يُقَيِّم فترة حكمه رحمه الله على أنها من نوادر ما تجود به معطيات التاريخ الإنساني في أشد حالاتها استثناء. فلقد أعطي خلال هذه البرهة القصيرة، وأسس ونظم وشجع وأبدى وأعاد، في محاولة رفع شأن شعبه، وتجنيب العالم كله خطر الانقسامات، وويلات الإرهاب، ما لم يعطه حاكم آخر قبله. ندعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووحدانيته أن يرحم عبدالله بن عبدالعزيز، وأن يبعثه مبعث النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فلنعم الملك الصالح هو، ولنعم الوالد الحاني على شعبه هو، وإنا لنشهد أنه أدى الأمانة ونصح للأمة، وترك شعبه على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا كل ختار كفور بنعمة الأمن والاستقرار. نم قرير العين في قبرك أيها الملك الصالح مع والدك وإخوانك ممن سبقوك إلى الدار الآخرة، وثق أن شعبك يلهج بالدعاء لك مع طلوع الشمس ومع غروبها وفي آناء الليل وأطراف النهار، مرددين مع كل من أحبك فيك إنسانيتك وطيبتك وتلقائيتك:( طبت يا عبدالله ميتا كما طبت حيا). لمراسلة الكاتب: [email protected]