مع الاعتذار بأثر رجعي لصاحب الأطلال الخالدة إبراهيم ناجي رحمه الله، والذي كان يناجي محبوبته: (ياحبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خُلقنا تُعساء). يبدو لي والله أعلم أن من بيننا من لا تطيب له الحياة ما لم يُسوّق التعاسة، ويقطع الطريق على أي بسمة بريئة، وبشكل مجاني، المهم ألا تتسلل الفرحة إلى القلوب، وكأنهم وكلاء حصريون لهذه المشاعر التعيسة التي يجب أن تكون لها السيادة، حتى تمّ ربط الوقار بالعبوس وتغضن الجبين، لماذا؟ لا أعرف، ولا أحد يعرف. بعض علماء الاجتماع صرفوا الأمر إلى تأثير بيئة الصحراء الجامدة، ثم أغلقوا دفاترهم، وتركوا هذه الظاهرة لشأنها، رغم كل ما أصاب حياتنا من المدنيّة ووسائل الراحة، مما جعل الصحاري مجرد هامش يعيش على ضفاف المدن وليس العكس. وسائل التواصل الاجتماعي وفّرتْ للكثيرين متنفساً لا بأس به للخروج من دائرة الاحتقان والعبوس، فانبرى عدد من الشباب لاختراع ما يُبهجهم وما يُسليهم، ويُخرجهم من حالة السأم، والأيام والأوقات التي تشبه بعضها، بعد أن أُوصدتْ كل الأبواب في وجوههم، فأطلقوا العنان لنوع من الكوميديا على أنغام بعض "الشيلات"، بحيث يتم توظيف السيارات والمقطورات والشاحنات والآليات الأخرى بدون سائق وفي عرض الصحراء، وتقديم بعض العروض الفكاهية عليها، كانت مجرد لعبة بريئة وقد لا تخلو أحياناً من التسطيح، لكنها بالتأكيد غير مؤذية لأنها تتم في أماكن صحراوية خالية، وربما كان من بين مشاهدها بعض الإسقاطات المعبرة التي تكشف عن موهبة فنية، ومع هذا وبمجرد أن انتشرت هذه المشاهد في أوساط الشباب، كلٌ يُنفذها بصيغته وأسلوبه، حتى تصدّتْ لها سكاكين النقد التي لم تدع تهمة شائنة دون أن تصفها وتصف منفذيها بها، إلى حدّ الاتهام بتعاطي الممنوعات، لماذا كل هذا؟ لأن الوكلاء الحصريين إياهم وكما يظهر لا يُريدون أن تتسلل البسمة إلى نفوس هؤلاء فتفسد طباعهم، تلك الطباع التي تتلاقى فيها الوجوه عند إشارة المرور، وكأن كل واحد كان قد ذبح والد الآخر. هطل الثلج قبل أيام بعد أن ظل عنوانه الدائم ليغزو بعض مدن ومحافظات الشمال على غير العادة، فخرج الشباب والصغار والكبار يتدثرون فِراهم ليبتهجوا بهذا الزائر الجميل، فتقاذفوه فيما بينهم، وصنعوا منه المجسمات لمجرد اللهو والتسلية، قبل أن تسبقهم إليه تلك الفتوى الظرفية التي تحرم مجسمات الثلج الذائب! حتى أننا بتنا نشك في أنه لو اهتدى بعض الشباب إلى لعبة ما لغرض التسلية في عاصفة غبارية من تلك التي تكتم أنفاسنا، لوجدتْ من يتصدى لها. السؤال: ما المطلوب بالضبط؟ ماذا يُريد وكلاء التعاسة ومسوقوها من هذه المجتمعات؟ وإلى أين سيأخذونها أبعد من ذلك؟ لا زالت كتب التاريخ تتندر على فتاوى الحاكم بأمر الله في تحريم الملوخية والجرجير والسمك، ومنع بيع الزبيب والاتجار به، فهل سننبش مقابر التاريخ لنسترد منها وفق واقعات عصرنا الراهن كل ما يضاهيها في تهافت العلة والمعلول، وكأننا خُلقنا تعساء، أو يلزم أن نكون مستوعباً إنسانياً لكل ما يُوصد أبواب البسمة، ويفتح مقابلها كل شوارع السأم والملل والرتابة والطفش والتكشير، المهم ألا نفقد هيبتنا ووقارنا مع المهيب الركن السيد العبوس، لنشتم أي حركة أو مشهد أو طرفة عين باسمة ، ونقابل ذلك الثلج الذي ما زارنا إلا بعدما تقطع حزناً علينا من صفعات عواصف الغبار الجامح، فجاء ليمسحه عن وجوهنا، لنقابل بياضه وبهجته وطهارته بنفس الطريقة التي نقابل بها ذلك التراب الذي يُعمي عيوننا ويكتم أنفاسنا؟ هل هذا هو ما يُراد لنا؟.. ثم لماذا كل هذا القمع الصارم، والحجر المتشنج أصلاً، طالما أن كل ما شاهدناه لم يتجاوز إطار اللهو البريء؟