(مهرة بنت أحمد الطنيجي) – رأس الخيمة. هكذا وقعت الروائية الإماراتية مهرة بنت أحمد آخر روايتها الأولى (كراكاتو)، في طبعتها الأولى، الصادرة عام 1434/ 2013، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ومقابل (رأس الخيمة) في توقيع المؤلفة، يعثر القارئ على أن أحداث الرواية تدور في (باد فيزيه) في ألمانيا، وشخوصها (لو كاس)، وزوجته(صوفيا)، المقيمة في (ميونيخ) و(الدكتور: ماكسمليان مولر)، والشاب (يوهان فيبر)، وكذلك يعثر القارئ على (لويزا) الكوسوفية، و(جون مينيزيس) البرازيلي، و(خالد بوعتيق) الجزائري! وستعبر بقارئ الرواية نقول عن (نيتشه)، وقصائد ل (جوته)، وأخرى ل (فاروق جويدة)، فضلا عن تلاوات وصلوات، كل ذلك بينما يحيل عنوان الرواية إلى بركان شهير بجبل (كراكاتو) في إندونيسيا! وربما أحالت قراءة عابرة للرواية إلى الاعتقاد أن مرجعيات قرائية معينة، ظلت مكوناتها تستعاد على نحو واسع في لاوعي الكاتبة، وأثمرت بدورها فعلا كتابيًا يستنسخ الأطر العامة، والبنى السردية لتلك المرجعيات المتراكمة في الذاكرة، ليعيد تكوينها عملا روائيا، تتكفل أوليته بشفاعة له عند قارئه يخفض لأجلها سقف توقعاته وتتصالح ذائقته مع اشتراطات أقل صرامة وأكثر تسامحا، كما جرت بذلك العادة لدى كثير ممن أكثر عذرهم (الإصدار الأول)!!. إلا أن مثل هذا الاعتقاد بالنسبة لرواية (كراكاتو)، لا يعدو أن يكون ثمرة قراءة قشرية لا تغوص عميقا وراء الباعث على تلك التوليفة من الشخوص والمواقع والتكوينات التي اتسع لها الوعاء السردي، وأفصح من خلالها عن مضمونه الذي استعار لأجله هويات ومكونات متباينة ليقول في النهاية جملة مبسطة تماما، كقول لوكاس: ((من الحكمة فقدان الحكمة أحيانا))!!وحين لا تثمر تلك التوليفة الروائية وفرة في الحدث السردي، ولا تؤدي إلى انعطافات كبيرة في مسار الرواية وتدفق الحكي، فذلك لأن الحدث الحقيقي في رواية (كراكاتو) ليس حدثا ظاهريا يتخلق عن تفاعل عناصر البناء السردي، ويسهم في دفع مسار الرواية إلى الأمام، إنما حدث الرواية الحقيقي يقع في محيط الروح، ويتردد صداه في الغور البعيد للإنسان، وكل ما عدا ذلك العمق الإنسان المحتدم، عوامل خارجية، تحفز صراعاته، وتمهد لتحولاته، وترهص بمآلات قلقه الوافر، وحزنه السخي!.من هنا يمكن القول: إن المكان في رواية كراكاتو ليس (باد فيزيه) ولا (ميونيخ) ولا (بحيرة تيغنزي)، مثلما أنه ليس (حانة الأصدقاء) ولا (مغارة الدكتور ماكسمليان)، بل هو المسافة بين الذاكرة الملغمة بالأمس، والقلب الذي لا نعثر عليه!. مثلما أن الشخوص في المؤدى الذي تترامى إليه الرواية ليسوا أولئك الذين ظلت الكاتبة تبتكر لهم الأسماء والهويات، إنما تلك الأسماء والهويات في تنوعها واختلافها تختزل في حقيقتها القيمة الرمزية للفكرة التي تؤشر إلى الإنسان عامة، حيث تتقاطع أوجاع البشر كلهم في ندوب الذاكرة، والنبض المثقل بالخيبات والانكسارات!. ومن هنا يمكن أن نتفهم أن المسألة في (كراكاتو) تتجاوز مجرد الأثر القرائي الذي يحضر عادة في باكورة حبر الكاتب، إلى مغزى ذي ارتباط بمضمون إنساني عميق، أريد له أن يوضع في قالبه العابر للهويات والخرائط نحو أفقه العام وفضائه الأرحب، أي أن الأمر تم بقصدية واعية، ورمزية لا ترتهن للسائد والمعتاد، وتجترح آفاقها بذكاء، وعليه وعلى الرغم من أن دلالات عناصر البناء السردي الزمانية والمكانية إضافة إلى أطر الشخصيات في الرواية لا تلعب أدوارها المعتادة في اللعبة الروائية المحكمة، إلا أنها في المقابل وبصفتها تلك تمارس دورا بالغ الأهمية فيما يمكن أن نسميه عولمة الوجع، ومد آفاق الفكرة لتشمل الوجود الإنساني كله. والفكرة التي يوجزها الفرار من سطوة ذاكرة مشحونة بقسرية الوجع، يمكن أن نرصد مخاضها الأول في عتبة نصية بدت مراوغة حين تموقعت في آخر الرواية، خلاف المعتاد في إهداء الكتب الذي يكون في الصدر عادة، لكن ذلك الإرجاء سيبدو مبررا حين نعلم أن ندوب ذاكرة (لوكاس) المحفورة بالفقد، هي الصورة المجازية لذاكرة حقيقية تقاسمت ندوبها الإهداء مع بقية المهدى إليهم، بعد أن تخلقت في تجاويفها فكرة الرواية ذات فقد، تقول الكاتبة في الإهداء: ((... ولندوب ذاكرتي التي كان أولها وفاة أحب إنسان إلى قلبي، والدي، أهدي هذه الرواية)) ص215، وبمسافة مقذوف بركاني في أفق البوح وبإسناد لغوي سخي، تحركت الفكرة من ندبة في ذاكرة الذات لتتموضع في الذاكرة الإنسانية كلها، التي يتعهدها وابل من حمم كتلك التي أمطر بها (كراكاتو) الدنيا ذات ثورة، ومن شأن تلك الحمم أن تكون في تراكماتها سدا منيعا جهة الغد والضوء والفرح، وهي بالضبط فحوى مكابدات (لوكاس)، الذي فقد والديه في حادث مروري ظلت ذكراه خامدة في روحه، قبل أن تتفجر كوابيس يقظة ومنام تبلدت على إثرها روحه، وتكلست علاقته بكل شيء وكل أحد: ((لا يزال لوكاس يتذكر تلك النظرة الخائفة، والصرخة الثاقبة، والروح العائمة، والدمعة التي لم تجف وسالت حتى بعد الموت، ما زال ذلك المشهد المأساوي محفورا في ذاكرته، وحاضرا بكل تفاصيله، يقف بكل عنجهية وثبات أمام كل محاولة لنسيانه، يقهقهر أي خطوة في حياته تقوده نحو المضي قدما، الذاكرة باتت تشكل عائقًا حقيقيا في حياة لوكاس وخطرا محدقا على حياة الآخرين من حوله...)) ص10. وفي (باد فيزيه) تتشكل أول انبثاقة للحل فوق الجبل الذي سكن الدكتور (ماكسمليان) مغارة فيه، في رمزية تؤاخي بين التسامي المجسد في علوية الجبل، والحكمة التي مثلها (ماكسمليان) وطريقته الفريدة في العلاج بتبادل القلوب، الذي حاوله (لوكاس) مع أربعة نماذج إنسانية شكلت حيواتها التي تجترح السعادة كل على طريقته على ضفاف الموت، مفاتح الحل بالنسبة له، قبل أن يختار قلبه هو الذي شكل نافذة السلام بالنسبة له حين ((خلع عن نفسه الذاكرة البركانية التي كانت خامدة لمدة عشر سنين، ثم نشطت، وأحدثت أقوى انفجار بركاني قد تحدثه ذاكرة)). ص 210 وبالنظر إلى بساطة الحدث السردي في الرواية، واتكائها على الداخلي والعميق في الذات الإنسانية التي جسدها البطل (لوكاس)، عمدت الكاتبة إلى توظيف عدد من تقنيات الإبطاء السردي، التي لعبت دورا مزدوجا بين شح الزمن، ووفرة البوح الإنساني والفلسفي في سائر فصول الرواية، فإلى جانب فنيات الحوار، والوصف، والمشهد الخارجي، والتناصات المتعددة، نجد أن التقنية الأبرز التي وظفت لأجل بسط الفضاء الروائي مقابل تقهقر الزمن السردي تبدت بوضوح عبر ذلك (المنولوج) الداخلي الدائم الذي شكل المتن الأكبر في الرواية، وصنفها رواية تيار وعي بامتياز، وإن كان ذلك (المنولوج) قد أدى إلى ترهل السرد في مفاصل عدة منه، حين استدرج ذلك التداعي الروحي والفلسفي حبر الكاتبة إلى مزيد من التدفق مضحيا ولو قليلًا برشاقة المتن الروائي مقابل الانحياز إلى السياق الروحي، الذي جسدته تلك الكتل من البوح، التي أنجزت بكثير من شعرية اللغة وما تشكل عبرها من حيلة كتابية بارعة في تمرير بعض الإسهاب الفلسفي، مقابل متعة قرائية تخاطب الغور الأعمق في الوجدان الإنساني، يمكن معها لتلك الكتل اللغوية الممعنة في الشعري والإنساني أن تشكل مجتزءات منتقاة من الجسد الروائي تقرأ بذاتها ولذاتها، مثلما هو الحال في كثير من النقولات المتداولة عبر فضاءات التدوين لكثير من مبدعي السرد الروائي، والتي تشكل مثلًا روائيا سائرا، ربما لا يعنى ناقلوه بالمتن الذي تخلق فيه، عنايتهم بالمؤدى الحكمي والروحي والفلسفي الذي يتجسد من خلاله منفردا، ومتباعدا عن أصله. وإن كانت تقنية (المنولوج الداخلي) تقتضي خفوت صوت السارد العليم، مقابل صوت البطل، إلا أن صوت السارد ظل متداخلا ومتقاطعا مع صوت البطل، وربما تعجل الإفصاح والظهور في غير موضع من الرواية انتقل فيها الصوت من روح البطل إلى حنجرة الراوي العليم مختزلا مساحات من السرد وكاشفا عن بعض من قادم التفاصيل.ويمكن القول إن (كراكاتو) رواية تقارب لحظتها بكثير من الوعي بمعطيات تلك اللحظة في بعدها التاريخي والواقعي، إذ يتكاثف مخزون الذاكرة من السواد، ويسهم في انسداد الأفق، لتكون غاية هم الفنان رسم معالم الدروب جهة الضوء. وإن كانت عبارة (الإصدار الأول) وكما أشرنا سابقا تتخذ صفة العذر عن كثير من ارتباكات الخطوة الأولى، وشطط الحبر البكر، إلا أن رواية كراكاتو تأتي منطوية على دهشتها الخاصة أن تكون فاتحة البوح، وهي لا تعتذر بأولية الإصدار عن نفسها، وقد أنجزت بحرفية كبيرة، إنما هي العذر الأجمل عن خطايا كثيرة سابقة عليها وأخرى تالية لها اتخذت قالب الرواية ولم تحسن أن تتموضع فيه، مثلما صنعت بمهارة (مهرة أحمد)، في رواياتها الجميلة (كراكاتو)!.