من بين 166 شخصاً ومنظمة مرشحة لنيل جائزة نوبل للسلام، وقع اختيار اللجنة المكونة من خمسة أعضاء على الدكتور محمد البرادعي والوكالة الدولية للطاقة الذرية للحصول هذا العام على جائزة نوبل للسلام. اللافت أن هذا الخبر لم يحظ بما يستحق من قراءة تخرجه من أجواء احتفالية الجائزة أو القراءة السياسية المسبقة لمضامينه لنقع دائماً - كما هي عادتنا - في أجواء تبدو فيها القراءة المحايدة في مثل ندرة قدرتنا على قراءة التحولات التي تجتاحنا، فإما أن نكون أسرى لعواطفنا ونهمل كل الأبعاد الأخرى، أو نقع فريسة للاستسلام لشرط القراءة المبرمجة دوماً على عقدة العمالة وشروطها، خاصة حول جائزة مثيرة للجدل السياسي مثل جائزة نوبل للسلام، حيث نفتش دوماً عن العلاقة بين الجائزة والثمن الذي يدفع مقابلها، فقط عندما يكون الفائز بها أحد أبناء جلدتنا وسحنته من ملامحنا. ومن جهة أخرى - أيضاً - تصبح أي محاولة لفهم أبعاد هذه الجائزة من المنظور السياسي وصراع قوى اليوم حول أكثر المشروعات النووية جدلاً في المنطقة وهو المشروع النووي الإيراني - عند البعض - إفساداً متعمداً لحفلة الجائزة، وسرقة جائزة لاستحقاقها، وما بين العرب من خصومات تحيل حتى استحقاق شخصية قديرة مثل الدكتور محمد البرادعي إلى حالة جدلية - سياسية، تبرع في تلمس الثقوب أكثر من كونها تتوسل قراءة موضوعية محايدة لاستحقاق جائزة دولية كنوبل للسلام. في البدء أعتقد أن الدكتور محمد البرادعي، الذي أصبح نجماً على قنوات التلفزة والأخبار اليومية منذ تلك المرحلة التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق، أعتقد أنه من أكثر المسؤولين العرب الذين تبؤوا منصباً أممياً حساساً، كوكالة الطاقة الذرية، مهنية وقدرة على النأي بالمنظمة عن الوقوع في حبائل صراعات الدول الكبرى في مسألة من أشد المسائل اليوم حساسية على صعيد الأمن والسلم العالمي، ولست بحاجة أن اذكر أن البرادعي ووكالة الطاقة الذرية التي يديرها لم تعط الولاياتالأمريكيةالمتحدة بعد جولات التفتيش الشهيرة على المنشآت العراقية قبيل الغزو أي ذريعة كانت ترجوها لتضاف كشهادة تتطلع إليها من هيئة أممية كوكالة الطاقة الذرية، لقد قال الدكتور محمد البرادعي بوضوح اننا لم نعثر على دليل بوجود أي برنامج تسليح نووي في العراق. ولم يقدم أي لبس في شهادته الواضحة والدقيقة في الأممالمتحدة حول نتائج التفتيش في العراق. إذا كان كولن باول اليوم يعتبر تلك الشهادة التي قدمها في الأممالمتحدة والصور الاستخباراتية التي اعتمد عليها للتدليل على مشروع العراق لإنتاج أسلحة الدمار الشامل لم يكن سوى وصمة عار في تاريخه المهني والسياسي، فإن محمد البرادعي يعتبرها اليوم شهادة تضاف إلى سجله المهني العالي الكفاءة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. عشية تكثيف الحشود الأمريكية تمهيداً لإسقاط نظام صدام حسين وغزو العراق، تنادي مجموعة من المثقفين العرب - بما فيهم بعض السعوديين - وكتبوا للدكتور محمد البرادعي رسالة فهمت حينها أن مضمونها يدور حول النأي بالوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن تصبح وفي عهد مديرها البرادعي العربي المسلم وسيلة لتمرير مشروع غزو بلد عربي، وأنها ربما كانت وصمة عار في تاريخ الوكالة ومديرها العام لو حدث مثل هذا الأمر على نحو يجعل الوكالة شاهد زور لأمر مبيت ومقضي لا يحتاج أكثر من ابتداع الذرائع في ذلك الوقت العصيب.. وأعتقد أن الدكتور محمد البرادعي رد على تلك الرسالة بأفضل منها ولم يكن سوى مطمئن لأولئك المثقفين القلقين على مستقبل العراق ليس من منظوره الشخصي وهو المصري العربي الذي يدرك تماماً أن أهداف الغزو تتجاوز أجندة أسلحة الدمار الشامل، بل من منظور المسؤول الأممي الذي ينبغي أن يحيد الوكالة أن تصبح وسيلة تدخل ضمن شهادات تبرر لحالة غزو، تكشفت فيما بعد الحقائق على أنها لم تكن سوى ذرائع كاذبة أو مكذوبة أو معلومات استخباراتية مضللة، المهم هنا أن الشهادة تقتضي أن نكون أكثر حذراً في تمرير شهادة نزاهة ومهنية عالية وكفاءة إدارية كبيرة استطاعت أن تجنب المنظمة حتى اليوم أن تكون طرفاً في حالة صراع دولي أو وسيلة لتبرير ما يمكن تبريره لتمرير قرارات سياسية تعتمد القوة الناعمة أو الصلبة على حد سواء. مشكلة الذين يقرؤون سجل الوكالة أو مديرها العام، هي تلك الحالة من الخلط بين مهام منظمة أممية لم نكن شركاء حتماً في صياغة أجندتها الأساسية، وبين مهام مديرها العام الذي يعمل ضمن المتوافق عليه في أروقة الوكالة، وهو يتعامل مع الممكن والمتاح حالياً وفق منظور مهني بحت حتى لا نقع في مأزق تعميم فكرة ليست أصلاً في وارد تقييم نشاط إداري أو مهني مثل الدكتور محمد البرادعي. لقد تباينت ردود الفعل بُعيد الإعلان عن فوز الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها العام محمد البرادعي بالجائزة، فإذا كانت تصريحات المسؤولين في بعض الدول العربية وفي الولاياتالمتحدة أشادت بهذا الاستحقاق، فقد انتقدت المنظمات الدولية المناهضة لانتشار الطاقة النووية من جماعات السلام الأخضر البيئية وسواها هذا الاختيار، حيث نددت بالدور الذي تقوم به الوكالة واعتبرتها تقوم بدور مزدوج، فهي تشجع استخدامات التكنولوجيا النووية - حسب تعبير تلك الجماعات - وإن كانت تحاصر وتلاحق بعض البرامج النووية مثل البرنامج الإيراني أو الكوري للحيلولة دون توسع دائرة القوى النووية للحد من انتشار تقنية السلاح النووي، ضمن ميثاق الهيئة ومشروعات التفتيش والرقابة الدولية. ليست تلك الاحتجاجات التي تطلقها منظمات مثل جماعات السلام الأخضر البيئية وسواها قادرة على الوصول إلى حجم التأثير في قرارات دولية وحتى في التأثير في مشروعية جائزة نوبل للسلام.. تتجاوز حتماً أبعاد الجوائز الأخرى التي تقدمها نوبل حيث تبدو هذه الجائزة ذات معايير أخرى تعتمد حالة توافق بين دول نافذة ورؤية غربية بحتة لحالة السلام وعناصره والقوى المؤثرة فيه بغض النظر عن المعايير التي قد يراها البعض مزدوجة وغير قابلة لاستيعاب مشروع جائزة محايدة. الاعتراض الذي يحتاج إلى نقاش ليست تلك الاعتراضات التي تطلقها جماعات مثل السلام الأخضر، إنها بالنسبة لنا هنا هي تلك الحالة المزدوجة لمعايير الوكالة في مراقبة ومتابعة مشروعات نووية أخرى أكثر خطورة، فهل يعفي الوكالة أو مديرها العام أن تكون إسرائيل من بين الدول التي لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية حتى تبقى بمعزل عن المساءلة في منطقة يتم الآن تفتيشها بعناية وإثارة كل الأسئلة حول أي برنامج أو مشروع للطاقة النووية. إذا كانت الوكالة جادة في متابعة مهمتها في منطقة الشرق الأوسط التي تنام على توتر كبير، وهي الآن تضغط باتجاه محاصرة المشروع الإيراني المريب الذي يستهدف الحصول على تكنولوجيا تمكن من إنتاج سلاح نووي، بينما يتوارى أي صوت دولي مؤثر ونافذ تجاه وضع إسرائيل ضمن دائرة الدول التي عليها أن تخضع منشآتها النووية للتفتيش. معايير السلام الدولية في منطقة الشرق الأوسط تتطلب إثارة مثل هذه المسألة.. واستدعاؤها هنا ليس بهدف إفساد مشروع استحقاق جائزة بقدر ما تعني تلك المعايير المزدوجة في لوحة سلام عالمي يحتاج إلى منظمات أممية تقوم بمهمة المفتش بالنيابة عن مشروعات نووية هنا وهناك لحماية السلم العالمي ومنع وقوع الأسلحة المحرمة بيد دول سجلها مقلق للدول الغربية الماضية في تضييق الخناق على كل محاولة تستهدف الحصول على سلاح استراتيجي مدمر. وهنا علينا أن نفرق بين كفاءة الأداء التي يتمتع بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي وهو يعمل ضمن حدود وصلاحيات ومعايير الوكالة وأنظمتها واتفاقياتها، وبين معايير حماية السلام الدولية المزدوجة. تثير تصريحات الدكتور محمد البرادعي حول المشروع النووي الإسرائيلي جدلاً والتباساً لدى القارئ العربي، فهو يقول عندما سئل عن برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلية (إسرائيل ما زالت ترى أنه في غياب اعتراف كامل من كافة دول المنطقة لا تستطيع التخلي عن الرادع النووي، أو الحد من الأسلحة، سواء أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة التقليدية). مثل هذه التصريحات تثير لدى القارئ العربي الكثير من الاستغراب، وإذا كان يمكن تفهم أن متطلبات المنصب الأممي الذي يدفع بمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن يبدي عدم قدرته على تقدير إمكانات البرنامج النووي الإسرائيلي وفق صلاحيات وشروط عمل الوكالة، لكن في ذات الوقت يبدو تفهم هذه المسألة صعباً عندما تتحول متطلبات هذا المنصب إلى حالة دفاع عن وجهة نظر إسرائيلية نعرف حتماً أنها لا تحمل مضموناً حقيقياً أكثر من كونها حالة لا تقبل التنازل عن شرط التفوق. في التسلح الاستراتيجي بكل أشكاله على دول الجوار العربي حتى باستدعاء السلاح النووي إن تطلب الأمر شرط وحماية أمن إسرائيل.. كما تراه إسرائيل لا كما يراه أي منصف أو قارئ موضوعي لحالة الصراع العربي - الإسرائيلي. ما اردت قوله هنا، إن كفاءة الأداء وشروط الإجادة والعمل وفق مفاهيم مؤسسة في منظمة دولية هي حالة يمكن تقديرها على اعتبار انها تمثل حالة استحقاق لجائزة مثل نوبل. لكن في ذات الوقت المنظمة الأممية شيء آخر. علينا أن نفهم الصراع الدائر اليوم حتى بين القوى الكبرى في أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الجدل المثار حول المشروع النووي الإيراني يكشف أن أوروبا معنية أكثر من الولاياتالمتحدةالأمريكية بحصار المشروع النووي الإيراني وهي التي تدفع به لمجلس الأمن، وما تخفيه ملامح السياسة تكشفه أحياناً قرارات المنظمات الدولية التي تجسد مفهوم القوة الناعمة أو الضاغطة، التي تملك أحياناً أن تحدد حتى شروط جوائز السلام ومكافآتها.