للحظة تحول شارع نيكولا أبير في الدائرة الحادية عشرة في باريس، إلى أحد شوارع حي جوبر أو التبانة أو صنعاء أو تلك الشوارع التي بتنا نراها يومياً في محيطنا العربي. كان الهجوم على صحيفة «شارلي ابيدو» الساخرة مروعاً بكل المقاييس، من كان يظن أن يحدث ذلك في رابعة النهار، وفي قلب إحدى أهم المدن الأوروبية، وأكثرها اعتزازاً بصحافتها ومقر منظمة مراسلون بلا حدود. لقد زحفت الأحداث في المنطقة نحو الغرب بشكل دراماتيكي، أشخاص يتم استقطابهم عبر شبكات المعلوماتية إلى جبهات الإرهاب في سورية والعراق واليمن وليبيا، وبعد تدجينهم بالأفكار وتدجيجهم بالسلاح يتركون ليطبقوا ما رأوه في تلك المناطق بكل برودة أعصاب. اليوم تحاول الصحافة الرصينة في أوروبا «بلسمة» الحادثة بإبراز صورة الشرطي المغربي المسلم الذي شهد العالم كيف قضى نحبه بكل وحشية، وتجييش الناس خلف فكرة التسامح وتهدئتهم، لكن لن تلبث إلا أن تبدأ بمعالجة الموضوع من جذوره، والتساؤل مَن هؤلاء ومِن أين أتوا وكيف تجرأوا على هيبة الدولة والعبث بأمن المواطن الأوروبي وحقه في التعبير، وهنا سيجد اليمين الأوروبي الفرصة. تقدم نوعية الأحداث الإرهابية الحاصلة في أوروبا مبرراً مناسباً ومنطقياً للناخب الأوروبي للتصويت وتبني أفكار الأحزاب اليمينية، وأرى في فرنسا على سبيل المثال قاب قوسين من اختيار رئيسٍ يميني في انتخابات 2017، إذا ما علمنا أن حزب الجبهة الوطنية اليميني بزعامة مارين لوبان سيطر في مارس الماضي على الانتخابات البلدية في فرنسا، وكذلك حاز على نسبة 25% من مقاعد البرلمان الأوروبي، ولا نستبعد تكرار ذلك في انتخابات الجمعية الفرنسية (البرلمان)، ثم الإليزيه، ولا نعلم ماذا سيحل بالأقلية المسلمة والعربية هناك، إذ قبل فترة فصل حزب الجبهة الوطنية أحد أعضائه المسلمين بتهمة «نشر الإسلام». لو أن الأخوين كواشي تظاهرا سلماً أمام مقر الصحيفة، كان ذلك أشد وطأة على الصحافيين في «شارلي إبيدو» وكذلك على المسؤولين الفرنسيين وسيجلب التعاطف مع المسلمين بدلاً من التصرف ب»همجية»، إذ أن التظاهر في الغرب حق يضمنه الدستور، وكان سيؤلب الرأي العام ضد الصحيفة التي لم تترك أي شخصية دينية إلا واستفزت أتباعها بداعي حرية التعبير الذي هو الآخر حق يكفله الدستور، لكن الدولة ستجد نفسها في صف المتظاهرين خشية من تطور الأمر من السلمية إلى الصدام وربما تضغط على الصحيفة للقيام بأمر ما، لكن ما حدث هو العكس. والحقيقة أن الأوروبيين على مستوى المسؤولين وإن نزعوا في تعليقاتهم إلى تهدئة الشارع خشية إيقاظ المشاكل الإثنية أو الدينية في البلاد، إلا أنهم يدركون أن عليهم مسؤولية كبيرة في حماية بلادهم، وهم المكلفون من قبل الشعب بحمايتها وحمايتهم، وإن بدا منهم تخاذل ولو بسيط فلن يرحمهم المواطنون في بلاد يتم جلب رؤسائها إلى المحاكم. «شارلي إبيدو» تحولت إلى أيقونة إعلامية وهي الصحيفة الصفراء التي كانت على وشك الإفلاس، وسوف تطبع مليون نسخة هذا الأسبوع بعد أن كانت تطبع خمسين ألفاً، واصطفاف الأوروبيين اليوم خلف «إبيدو» هو اصطفاف لصالح القيم الأوروبية أكثر من شيء آخر، والمواطنون في فرنسا وألمانيا وبعض الدول الأوروبية المتعقّلون والمتعاطفون مع المسلمين لن يعيشوا هذه الحالة طويلاً إذا ما شعروا أن أمراً ما يهدد وطنهم، عندها ستغيب لحظة العقل.