علقت الدراسة بعد هطول الأمطار التي سالت على إثرها الأودية والشعاب فخرجوا وقت الظهيرة للنزهة محاولين اكتشاف خفايا الطبيعة وأسرارها قاطعين أطرافاً عديدة من رمال الصحراء منطلقين فوق طريق رملي ممهد ومعبد أوله يبدو مستقيماً وآخره مائلاً يشهد ازدحاماً شديداً لكونه مسارا واحدا تخرج بعض المركبات عن يمينه وعن شماله فالطرق الأخرى غير واضحة المعالم وبعضها متداخلة ومتقاطعة فلا تُسلك لخطورتها وبعد مرور ساعة شاهدوا بقعة رملية محاطة بمياه الأمطار والسحب من فوقها تتمايل بسبب فعل تيارات الهواء والطيور والعصافير على جنباتها أخذت موضع الافتراش تصدر أصواتاً ونغمات ظللتها بعض الشجيرات التي حملت بشواطئ رملية سقيت بمياه الأمطار غاية في الروعة والجمال شكلت تلك الأجواء والمشاهد لوحة فنية تمتع العين وتجلب الراحة والإلهام تعجز عن رسمها يد فنان فانبهرت وانبرت لها أنفسهم فالكل يريد أن يرتمي بحضن الطبيعة الرائع فأقاموا مخيمهم واخذ الرجال مكانا مبتعدين به عن أعين النساء يتجاذبون أطراف الحديث والبعض الآخر منهم أطلق العنان لقدميه يتجول هنا وهناك وانشغلوا بمناظر السيول والرمال وتساقط الأمطار تاركين الأطفال دون رقيب يلهون ويلعبون على طول المخيم وعلى جانبي المستنقع الذي تكوّن بفعل الأمطار ترى الماء كأنه راكد وتظنه مستوياً على سطح الأرض ولكن منظره يخدعك ففي أسفله فجوة عميقة. أخذت تعلو وجوههم الابتسامات والضحكات فإذا بطفلة صغيرة في العاشرة من عمرها مرتدية عباءة سوداء تملؤها الحيوية تلعب وتلهو مع الأطفال متعلقة بدميتها تطعم الطيور التي تجمعت من حولها قد وضعت قدمها على تلك الأرضية الضحلة حتى تعثرت بطرف عباءتها فغاصت لكعبها ومع كل خطوة تريد الخروج ولكن مسك بها الطين حتى ساقيها فجعلها كلما أرادت الخروج تهبط إلى الأسفل فعلقت قدماها واصطكت ركبتاها وقلّت حركتها ونفدت طاقتها وأي جسد يتحمل هذا فحتى أقوى الأجساد لا تقوى مقاومته فسابقها الماء وسابقته فاستغاثت بصوتها الطفولي "ماما".. فدفعها وسقطت هبطت مرة وعلت مرة حتى غاص جسدها اللين بعد أن سحبتها المياه المتدفقة كالحمم المشبعة بالأتربة وبشظايا الصخور والجذور فلما همت شقيقتها والتي تكبرها بخمسة أعوام مهرولة نحوها لمساعدتها فتشبثت بذراعيها الصغيرتين فعانقتها تريد النجاة وما هي إلا لحظات قليلة حتى لحقت بها فتقاطرن على إنقاذهن أربع فتيات تتراوح أعمارهن ما بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة حتى هوت كل واحدة منهن تلو الأخرى كقطرات المطر المندفع والبعض منهن سدت عليهن المسالك يراقبن رفيقاتهن حتى أصبحن نقاطاً ضائعة انحجبت الرؤيا فلم يُر منهن احد فحدثت الفاجعة غرقا والبلاء موتا فلم يبق منهن إلا ذكريات قديمة وحادثة أليمة وأحاديث حزينة فأما الذكريات فسمعتها الآذان وبقيت في الأذهان وأما الحادثة فشاهدتها الأعين وبكتها الأوطان وأما الأحاديث فنطقتها الألسن وفارقتها الأبدان اختلطت الأصوات تخنقها العبرات أصوات الرجال والنساء والأطفال الكل يصرخ فأصاب كل بيت مصاب. حتى وصل البلاغ للدفاع المدني والذي شق طريقه عبر تلك الحشود المتجمعة والمتدافعة والتي أخذها الفضول بتصوير الحادثة وصل لعله يجد في صدور إحداهن رمقاً أخيراً فأخرج أربع فتيات منهن حملن على الأكتاف جثثاً وبقيت واحدة مفقودة حتى جُفف الموقع فعثر عليها غريقة وتم انتشالها ولكن من يجفف الأحزان فأجمل الثياب أصبحت ممزقة وأنعم الوجوه بالطين ملبدة ضحكات وابتسامات فارقتها الشفاه عظام متهشمة وضلوع محطمة تلبدت السحب بغيوم سوداء انقطعت أصوات العصافير وجفت أوراق الشجر وانكسرت مياه المستنقع وجفت مياه النبع وأشاحت بوجهها الصحراء وصعق البرق أنفاساً وصم الرعد آذاناً وكبد أم مفطور وفؤاد أب مكلوم احتبست الكلمات الكل يبكي ويشاركهم الحزن ودعن أحلامهن وآمالهن وفارقن الأهل والأحباب فكان منظرا عصيا عن الوصف. ورغم كل التحذيرات "المتوسلة" من دفاعنا المدني والتي بثها خلال الإعلام بمقاطع إعلانية على مختلف القنوات التلفزيونية والإذاعية ومواقع التواصل والتي تدعو الجميع لتوخي الحيطة والحذر والابتعاد عن المستنقعات ومجاري الأودية والسيول والسدود والحذر من الاقتراب منها، إلا أن البعض لازال غير مبالٍ.. فإلى متى هذا الاستهتار وإلى متى لا يغفو بعضنا من غفلته إلا بمصيبة تحل به..!!