ليس مصادفة أن يحضر( جان جاك شبولينسكي) مدير سينما بلزاك الملقب بمستر بلزاك شخصياً للتقديم لفيلم ( مستر تيرنر)، هذه التحفة السينمائية التي هي من إبداع المخرج البريطاني" مايك لي "، والذي يعد علامة فارقة في الإخراج السينمائي باخراجه افلاما مميزة مثل " الآمال الكبيرة " و " الحياة جميلة " والآن هذه الرائعة عن حياة الفنان الانجليزي التشكيلي العملاق " جوزيف مالورد ويليام تيرنر "، الذي يعتبر من أهم فناني القرن السابع والثامن عشر. " تيرنر" هو مدرسة فنية بذاته أثارت الفضول في عصره، فنان مصادم بحق، لم يتراجع رغم النقد العنيف الذي واجهته به المدارس التقليدية والطبقة الأرستقراطية، فلقد تحرر من هيمنة المدرسة الإنطباعية، يرسم مشاعره الجارفة والمكبوته بلعابه وعرق أبيه الذي كان يساعده بطحن الأصباغ وتذويبها حتى مات الأب بداء الرئة، يبصق تيرنر على اللوحات و يذوب التفاصيل، ويعطي إيحاءً بعالم سرابي، يتجاوز المفردات لإيحاءاتها، متعمقاً للطاقة المحركة وراء الأجساد والطبيعة والأشياء. عالمه جحيمي لكنه يتنور بنور باطني متناولاً مواضيع لم يلتفت لها سواه من الفنانين مثل لوحاته عن هانيبال في عبوره مع جيشه برفقة الفيل لجبال الألب، وعن ثورة البحر، بل ولقد طلب من كابتن السفينة ربطه في قمة الصارى أثناء عاصفة ثلجية لكي يقوم بمعايشة ثورة الطبيعة، ويجسدها في أعماله كما في لوحة عاصفة ثلجية 1942، وهو الأمر الذي دمر صحته لاحقاً. أيضاً ميزت تيرنر حساسيته العالية لمجريات عصره واستشرافه لدور جديد للفن، وذلك من خلال استجابته العميقة لظواهر لم تلفت سواه من الفنانين من قبل، كما حدث حين حركت مخيلته السكك الحديدية، التي كانت تسمى (عطية الله العظيمة) فقام بإنتاج لوحات مذهلة عن قطار البخار المندفع في الريف الإنجليزي، لوحات مست مخيلة المتلقين، وقال عنها الطبيب الذي حضر لزيارته آخر حياته، " لم يعد بوسعي ركوب القطار دون أن أذكر لوحاتك عن السكك الحديدية، وتحويلك لكامل المشهد لبخار عادم، الرجال الذين يحترقون بينما يحرقون الفحم في مراجل تلك القطارات." تعتبر أعمال تيرنر مقدمة رومانسية للفن الانطباعي واعتبرت حينئذ من الأعمال التجريدية قبل ظهور هذا المسمى في بدايات القرن العشرين، وسواء كان هذا أو ذاك فهو يحتل مكانة مرموقة بين التشكيليين العالمين، ولقد بلغت أسعار لوحاته أرقاما قياسية مؤخراً، مثل لوحته المسماة ( روما كامبو فاسينو) التي بيعت بمبلغ 30,3 مليون جنيه استرليني، وهو أعلى سعر للوحة فنية من نتاج ماقبل القرن العشرين. مما يشير للمفارقة في قصة المليونير الذي عرض عليه شراء كامل أعماله حتى التخطيطات، مقابل ما يعادل اليوم 10 ملايين جنيه استرليني، و بلاتردد رفض تيرنر ذلك العرض المغري يومها، و قال: " أعمالي ليست للبيع، فأنا أتركها للشعب البريطاني، تعرض كاملة." و تحداه المليونير قائلا: " وماذا سيعطيك الشعب البريطاني مقابل ذلك؟!." ليجيبه تيرنر دون أن يطرف له جفن: " لاشيء!" تيرنر ذاك ببصيرته النافذة ربما تنفس الصعداء في قبره فهاهي أرفع جائزة عالمية في الفنون المعاصرة ترصد ومنذ عام 1984 سنوياً باسمه في متحف التيت بريتين بلندن، و هو واحد من أهم المؤسسات المتحفية في بريطانيا. وتبلغ قيمة الجائزة 40 ألف جنيه، يمنح منها 25 ألفاً للفائز الأول، فيما يمنح كل من المرشحين الثلاثة المتبقين 5 آلاف جنيه. وهي جائزة يطمح للحصول عليها الفنانون وتمنح للمتميزين منهم ممن هم تحت سن الخمسين، وتفتح الجائزة للحاصل عليها أبواب المتاحف وصالات العرض والمزادات، وفي 2006 قالت يوكو أونو في إعلانها عن الجائزة :"أن الكثير من الناس يعتقدون أن السياسة هي التي تحرك الأمور في العالم، ويتناسون بذلك أهمية الفن في عملية التغيير." خلال الفيلم يصدمك الغموض بل والتوحش في شخصية تيرنر، والمتناقض مع الضوء الشفيف في لوحاته، هذا الملقب بفنان الضوء، التناقض الناجم ربما عن قصور تيرنر عن التأقلم الاجتماعي، والمجاملات المطلوبة في الصالونات. بل واتضح قصور تيرنر في عجزه عن التواصل مع المرأة، فلقد طلق زوجته ولم يهتم بمتابعة نمو أبنتيه منها حتى وفاة إحداهما، وعاش مع أبيه وخادمته، ووظفهما في تنظيم محترفه وإعداد ألوانه، ولقد أسعفه الحظ بالتعرف على أرملة تعيش على شاطئ البحر، قضى معها بقية حياته حتى وفاته 1851، تحت مسمى (السيد والسيدة بوث). ولقد أدرك المخرج مايك لي التحدي في تناول شخصية كشخصية تيرنر، وتجسيدها سينمائياً، وأمضى مايك لي عامين في الإعداد للفيلم و كتابة السيناريو، قضى ساعات في حجرة الرسوم بمتحف التيت في لندن يدرس رسوم تيرنر، ويتعمق في مخطوطاته و كل ما كتب عنه، لكي يخرج بما وصفه بال (المعنى العميق، و السامي، والروحاني، والجمال الملحمي والدراما المرعبة التي تتلخص فينا نحن الأحياء على سطح كوكبنا الأرض.)، الدراما والجمال في الإنسان الفاني القادر على أن يعبر الفناء ويخلف وراءه فناً و نتاجاً خالداً. إن تعمق المخرج مايك لي في لوحات تيرنر جعل تلك اللوحات تتحول لمحرك للفعل الدرامي في الفيلم، متضافرة مع المحركات النفسية والآلام والإحباطات والمشاعر الجارفة التي تفاعلت في أعماق هذا الرجل العملاق، ورغم التفكك في رؤيا الفيلم فلقد نجح مايك لي في تجسيد المظهر الصارم للفنان والذي يخفي تحته روحاً رقيقة شعرية، كما في المشهد الذي عاش فيه تيرنر وفاة أبيه متماسكاً، حيث لم يظهر عليه التأثر لذلك الفقد العظيم، وحين ذهب لزيارة فتاة الهوى تلك وطلب منها ان تمثل دور المستلقي بيأس لكي يرسمها، فجأة بدأت أصابعه ترسم خطوطاً متسارعة ثم بدأ يجهش بالبكاء، كل الألم الذي عاناه من فقد أبيه الذي مات مختنقاً بداء الرئة صبه في تلك الخطوط. يقول المخرج عن تدريب شخصيات الفيلم لتكون أقرب للواقع: "عملنا مع كل شخصية حتى تلك التي تقوم بدور بسيط، عملنا بطريقة تجعلها تتطور وتبدع، وسعينا إلى إظهار ذلك على الشاشة، واتمنى أن نكون قد نحجنا في تقديم شخصيات قريبة من الواقع." ومن هنا جاء الأداء الصادق والعميق لكل من الممثل البريطاني تيموثي سبال الذي لعب دور تيرنر، ودوروثي أتكنسون في دور الخادمة هانا، وماريون بابلي في دور صوفي أو السيدة بوث، وبول جيسون وليسيلي مانفيلد، ومارتن سافاج وروث شين. يذهلك أن تعرف بأن تيموثي سبال لم يقم فقط بدراسة ومعايشة شخصية تيرنر بل وتلقى دروساً في الرسم لمدة عامين قبل أن يلعب هذا الدور الكبير، واستحق بذلك أن يفوز بجائزة مهرجان كان السينمائي في مايو 2014. يقول: "عندما بدأت بالتدرب على الرسم كنت محبطاً بعض الشيء لكن أستاذي قال لي لديك قدرة جيدة على الرسم، وفي كل مرة كنت أخطيء فيها كان يغضب مني كثيراً، عشت مع تيرنر تجربة مهمة جداً وإن كانت صعبة، لأنني تعلمت خلالها كيف أمسك بفرشاة الرسم وكيف أفهم ما أقوم به، و كيف أخلط الألوان." وبالنتيجة فإن فيلم السيد تيرنر هو مغامرة لمخرجه وممثليه وللمشاهد معاً، هو مزاوجة عميقة للسينما والفن التشكيلي، ورحلة للتعمق في اللوحة والضوء.