عام آخر يا أبي يطوي صفحاته وذكرى الفقد تقترب.. عام شبع وأشبعنا مفاجآت وتقلبات وبقي فيه شيء واحد ثابت: تلك الغصة بفقدك التي أصبحت مع طول العشرة شبه أليفة.. من العبث الصارخ ان اسمي يوم رحيلك ذكرى تتكرر كل عام، التذكر حالة استثنائية تشق جيوب النسيان وتطغى على واقع يريد أن ينسى لا أن يستذكر. الا أنا وفقدك وافتقادك. وتذكرك واستذكارك.. ذاك السهم الذي يشق الروح حين تأتي سيرتك تلك الدمعة التي لا تزال سخية حين اتحدث عنك وما اكثر حديثي عنك.. ذلك الثقب الأسود في قلبي والذي يزداد ظلاما حين تصغر الأشياء واصحابها مقارنة بكرم أخلاقك.. كلها أصبحت أدواتي كي لا أنسى، فكيف اتذكر يا أبتِ؟ وماذَا اتذكر؟ هذا العام تقاذفتني مطارات الدنيا ومدن هذا الكوكب.. وفي كل مرة تقريبا، يسخر من انشغالي بما افعله مشهد لك ومعك اختزنته الذاكرة وما كنت احسبني اذكره.. من بروكسل الى لندن الى باريس، مشاهد لا يسعني سوى ان أقف امام تفاصيلها والذعر يجتاح وجداني؛ نعم، هنا كنّا، مشينا هذا الطريق، جلسنا في هذا المطعم.. فيينا والمعطف الوردي الشهير الذي اشتريته لأختي سحر وأثرت حفيظتنا عليها نحن الأخوات سنين طويلة.. واشنطن والنقاشات المحتدمة حول التعليم وسوق العمل والسياسة الخارجية.. حملتني أقداري هذا العام الى مدنك الأثيرة: بغداد، القاهرة، بيروت، دمشق.. في بغداد رغم الفرق بين المدينة التي ألفتها وما هي عليه الآن، تذكرت رواياتك المسهبة ولولا بقية من نضج، لحسبت انك سوف تفتح الباب وتدخل في اي لحظة وإني لا ازال طالبة في الصف الاول الإعدادي.. في بيروت، وقفت طويلا على الروشة وقلبي يبتسم لحكايات اثيرة، رويناها الواحد عن الاخر وان تغيرت تفاصيلها قليلا او كثيرا بحسب الراوي وجمهوره.. دمشق كانت كلها عنك، كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، الشوارع، المقاهي، الهواء، السماء.. في دمشق (دمشقك) كنت اعلم انه لا مهرب ولا مفر من ان تتفتح بوابات الذكريات فجأة وكنت راضية مستسلمة لكل ذلك الشجن.. كل ذاك التذكر.. وحملتني أقداري هذا العام ايضا الى ان اسكن القاهرة.. وان اقضي ساعات طويلة في بيتك أبتِ.. وجدت كتبا لك، قصاصات أوراق بخطك، وأكاد اقسم انه ذات مساء صيفي جميل، سمعت ضحكتك! في كل مرة، في كل مدينة كنت أعلن لنفسي ان هذا هو المكان الأثير لديك وان تأثري بالمكان منبعه أثرته وذكرياتي فيه معك، ثم تأتي المدينة التالية فاغير إعلاني الى آخر مختلف تماما.. حيرتني مشاعري تلك، الى ان ادركت في لحظة صفاء نادرة مع النفس ان كل تلك الأماكن اثيرة بدون شك، لكن السر ليس في المكان، ولا فيما حدث فيه.. السر في قلبي، في وجداني، وفي اكثر الأماكن ضياء في تكويني.. حين كنت صغيرة، كانت جدتي (والدتك) رحمها الله تمشط ضفائري وكانت لها اهزوجة تتكرر كل يوم: "السمرة بنت ابوها والشيوخ خطبوها عشرة يديرون الفنجان.. ذاك هو السر؛ أنا ابنة ابي، ابي الذي رباني فأحسن تربيتي ودللني فأغناني عن الحاجة للناس وأعطاني ما لن يقدر بشر قط ان يعطيني إياه. تركت لي إرثا من الحب والطمأنينة سأعيش عليه باقي حياتي وجعلت مني بحبك لي أُماً تحاول ان تكون نقطة نور في حياة صغيرتها. لا عجب يا ابي أني مازلت ابكيك، وان كل المدن والمطارات لا تزال تحمل عبقك. لا عجب إني بنيت لنفسي بعد غيابك تلك الواحة التي اهرب اليها ألوذ بطيب ذكراك حين يتقزم الناس حولي او يجرحني اقرب الناس إليّ او يخيب املي في من صنعت منهم أحبة واصدقاء. رحمك الله أبا محمد واسكنك فسيح جنانه وجمعنا بك في فردوسه الأعلى ورزقنا الصبر والتحسب حتى نلقاك.