يبلغ تعداد سنغافورة السكاني 5.6 ملايين نسمة، وفقاً لمؤشرات العام 2014، وهي تأتي في المرتبة السادسة عشرة عالمياً على هذا الصعيد، قبلها الدنمرك بفارق ضئيل جداً، وبعدها سلوفاكيا (5.4 ملايين نسمة). وفي العام 2013، بلغ الناتج القومي الإجمالي لسنغافورة 339 مليار دولار، محتلة في ذلك المرتبة 47 عالمياً. وقد بلغت حصة الفرد من الناتج القومي 62.4 ألف دولار سنوياً، وفق مؤشرات العام ذاته. وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالمياً على هذا الصعيد، متقدمة على كافة الدول الصناعية الكبرى في العالم. وفي الأصل، لم تكن سنغافورة تمتلك مقومات الدولة ولا الأمة، فهي ليست سوى جزيرة صغيرة كانت تعيش على نشاط قاعدتين عسكريتين بريطانيتين، ويقطنها مهاجرون ينتمون لأعراق مختلفة. ولا تزيد مساحة سنغافورة على 618 كيلومتراً مربعاً. وكان تعداد البلاد في خمسينيات القرن العشرين قريبا من مستوى المليون نسمة، ينحدر 75 في المئة منهم من أصول صينية، وحوالي 14 في المئة من الملاويين، تتميز الدولة المتقدمة بميزات عديدة أولها المزايا الاقتصادية، مثل القوة الشرائية والثروة والأنماط الاستهلاكية التي تعكس التنافس مع الدول المتقدمة. وهناك بعض المميزات الأخرى مثل اعتماد نهج الشفافية السياسية، وحكومة صغيرة، واقتصاد يتميز بعدم التدخل الحكومي، ودور فاعل للمجتمع المدني. وقد حققت سنغافورة معظم هذه المعايير وقرابة 9 في المئة من أصول هندية، إضافة لمجموعات صغيرة من جنسيات أخرى. في المقابل، كان الجيران أكبر بكثير. فإندونيسيا جنوباً كانت تعد حينها مئة مليون نسمة، والملايو (ماليزيا حالياً) شمالاً كانت تعد نحو سبعة ملايين نسمة. أما الصين والهند القريبتان فهما الدولتان الأكبر والأقوى في آسيا. ضمن هذا المناخ، وهذه المعطيات الصعبة وغير المؤاتية، ولدت سنغافورة لتشق طريقها إلى حيث العالم الأول. ولتضيف إلى العالم نموذجا متميزاً لما بات يعرف بالدولة – المدينة. كان العمل على جعل المدينة الأكثر نظافة في المنطقة هي الخطوة الأولى في مسيرة بناء سنغافورة الحديثة، حيث تمكنت من توحيد الأعراق المختلفة على هذه النقطة، لتنطلق بهم تالياً نحو بناء الدولة. وخلال سنوات، استطاعت سنغافورة التغلب على حساسية الدول المجاورة، التي لم تكن تعتبر أن المنطقة تتسع لدولة أخرى، وإن كانت صغيرة بحجم سنغافورة. وقد أثبتت سنغافورة أن الأداء المتميز في جميع المجالات يمكن أن يقضي على العصبيات الداخلية، وأن تحسين ظروف المعيشة يُمكنه الارتقاء بالدولة إلى مصاف الدول المتقدمة. يقول لي كوان، مؤسس سنغافورة، في كتابه "قصة سنغافورة": لو كنت وزملائي نعلم عندما أنشأنا حزب العمل الشعبي في العام 1954 حجم ونوعية المصاعب التي سنواجهها على طول الطريق الذي انتهجناه لما فكرنا بدخول معترك السياسة أصلاً، إذ لم يكن في أذهاننا آنذاك سوى فكرة واحدة: الخلاص من الاستعمار البريطاني. أما ما عدا ذلك فكنا نعتبره تفاصيل صغيرة ومشكلات تافهة يمكن معالجة كل منها في حينها، لكننا كنا مخطئين كثيراً، فنحن كنا في واقع الأمر نواجه مهمة ثقيلة وشاقة إلى أقصى الحدود، وهي تأسيس دولة وإيجاد أمة من لا شيء. ولم يكن أمام سنغافورة سوى البدء بسياحة متواضعة، وقد أدى ذلك لنجاح جزئي ومحدود لم يكن كافياً للقضاء على البطالة التي وجدت البلاد نفسها غارقة فيها فور الاستقلال. وقد كان من الطبيعي ألا تقتصر الخطط على جانب واحد من الاقتصاد، فتم تشجيع بناء المصانع الصغيرة، وخاصة مصانع تجميع المنتجات الأجنبية، على أمل أن يتم البدء بتصنيع بعض قطعها محلياً. وقد عرفت التجربة الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو عدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلف ذلك الفشل غالياً، لكن البلاد استفادت من الدروس المكتسبة وعملت على عدم تكرار الخطأ – كما يقول لي كوان. لقد بذلت البلاد الكثير من الجهد والعرق في سبيل كل نجاح حققته في تلك الفترة، ولذلك قامت دائماً باختيار العنصر الأفضل لأية مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله. كانت تهتم بالنتيجة فقط. وكانت تعلم تماماً أن فشلها سيعني حرباً أهلية واندثار حلم. وهكذا، ما أن جرى استكمال انسحاب قوات بريطانيا والكومنولث في العام 1971 حتى كانت البطالة قد زالت تقريباً. وقامت اللجان التي عملت من خلال مكتب رئاسة الحكومة باستلام كل القواعد والأراضي والمباني التي كانت قوات الاحتلال تستخدمها، وحولتها فوراً للاستخدام المفيد والفعال. وكان من بين أهم إنجازات تلك الفترة إكمال منطقة جورونغ الصناعية، وهي المنطقة التي شهدت نجاحاً ضئيلاً للغاية فيما يتعلق باجتذاب الاستثمارات الأجنبية حتى منتصف الستينيات، ثم أخذت الحياة تدب فيها بسرعة بعد ذلك. وما أن اقتربت مرحلة السبعينيات من نهايتها حتى كانت البلاد قد وضعت حداً نهائياً لمشكلة البطالة، وأتاح لها ذلك الانصراف إلى مشكلات أخرى، مثل تحسين نوعية المنتجات ورفع مستوى التعليم، بحيث لا يقل عن أفضل المستويات العالمية. وليس هناك شك في أن التقدم التقني المتسارع الخطى، الذي أخذت البلاد على عاتقها مواكبته أولاً بأول، قد سمح لها بأن تحوّل القلب الذي ليس له جسد إلى قلب ذي جسد. لقد سمحت لها المواصلات والاتصالات الحديثة بأن يكون جسدها موجوداً في أقصى البقاع. وبعد أربعة عقود من العمل الجاد، تحقق الحلم. وانتقلت سنغافورة من العالم الثالث إلى العالم الأول. كان هذا نصراً لا يثمن، فهو يعني مستويات دخل مرتفعة، انعدام الأمية، ارتفاع معدل الأعمار وتحقيق معدلات نمو عالية. ومنذ العام 1996 صنفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سنغافورة كدولة نامية أكثر تقدماً. وأحد الأسئلة المهمة هو: لماذا لا يمكن تصنيف سنغافورة كدولة متقدمة، على الرغم من ارتفاع الدخل الفردي السنوي فيها؟ والإجابة هي قضية البحث العلمي، الذي لم تحقق سنغافورة فيه كامل المعايير العالمية، على النحو السائد في دول العالم الأول. وفي المجمل، تتميز الدولة المتقدمة بميزات عديدة أولها المزايا الاقتصادية، مثل القوة الشرائية والثروة والأنماط الاستهلاكية التي تعكس التنافس مع الدول المتقدمة. وهناك بعض المميزات الأخرى مثل اعتماد نهج الشفافية السياسية، وحكومة صغيرة، واقتصاد يتميز بعدم التدخل الحكومي، ودور فاعل للمجتمع المدني. وقد حققت سنغافورة معظم هذه المعايير. ولقد نوقشت من وجهة اقتصادية الأسباب التي تجعل دولة صغيرة مثل سنغافورة تحقق مثل هذا النجاح، وحاول كل من اليمين واليسار أن يفسر ذلك لصالحه، أي لصالح نظرياته وطروحاته، فبعض منظّري اليسار يعتقدون أن النجاح الاقتصادي الذي تحقق عائد إلى اتباع نظرية المضاربات والودائع أو نسخة جديدة منها. وأما بالنسبة لمنظّري اليمين فإن سبب النجاح مختلف تماماً، إنه يعود إلى سيادة القطاع الخاص، الحد الأدنى من تدخل الدولة في الاقتصاد، والضرائب المنخفضة والسوق الحر. وكل هذه الأشياء مجتمعة أمنت امتيازات التفوق. وفي الحقيقة، فقد اتبعت نمطاً جديداً من الخيارات يمزج بين القطاع الخاص والقطاع العام بطريقة لم يعرفها النموذج الانغلو سكسوني، كما أن السياسات الاقتصادية التي طبقت في الجوار الآسيوي اختلفت باختلاف البنى الثقافية والاجتماعية لكل دولة. أو لنكن أكثر دقة ونقول إنها تأثرت ضمنا بهذه البنى. وعلى صعيد اجتماعي، تحوّل المجتمع الذي كانت تهيمن عليه العصبيات العرقية إلى واحد من أكثر مجتمعات العالم استقراراً. وعلى الرغم من أن قوة سنغافورة الاقتصادية حقيقة لا جدال فيها، فان ذلك لا يغني عن الربط بين عنصرين أساسيين للقوة، هما التوازن والاستقرار. علما بأن مفهوم التوازن (ونقصد به هنا التوازن الاقتصادي الاجتماعي) يتداخل بحد ذاته على الصعيد الفلسفي مع مفهوم الاستقرار، إذ عندما يتوصل أي عنصر مشوش لتحقيق غاياته، فان التوازن يكون قد انتهى بالتعريف. وفي الأحوال كافة، تعتمد المحافظة على التوازن على الدولة، باعتبارها تملك من الوسائل ما يسمح لها بالعمل على ذلك. إن التنوع العرقي في سنغافورة يتداخل مع تنوع ديني، ذلك أن معظم أفراد المجتمع الملاوي هم من المسلمين، في حين أن الأغلبية الصينية هي أغلبية بوذية، كما أن هناك انتماءات مختلفة للأقلية الهندية الصغيرة، مثل الهندوسية والسيخ. كذلك، تلازم التنوع العرقي والديني مع تنوع لغوي، متضمنا بدوره تنوعاً واسعاً في اللهجات، التي يكاد بعضها أن يصبح لغة حصرية على الناطقين بها. فسنغافورة تقدم اليوم نموذجاً للاستثمار التنموي لمكونات عرقية وثقافية متباينة. وإن نجاحها على هذا الصعيد هو سر كل نجاحاتها. وعندما زرت الصين، قبل سنوات، وجدت أن المثقفين والباحثين هناك مهتمون كثيراً بمقاربة النموذج السنغافوري، واستخلاصه على المستويات المختلفة. وفي الشرق الأوسط، لا بد لنا من التأمل كثيراً في هذه التجربة الفريدة والمتميزة، بما هي قصة نجاح، للاستفادة من دروسها الغنية والثمينة.