"عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك". والصحابة تعني الرفقة والعشرة وجميل الرعاية ووافر العطف والإحسان. وقدمت الأم في حسن الصحابة لأمور منها حاجة الأم لحنان الأبناء ورعايتها أسوة بما قدمت من حنان ورعاية وتضحيات لا يقدر على تقديمها غير الأم. الأم ذلك الإنسان الذي يبذل قصارى جهده لاسعاد أبنائه والاشفاق عليهم مهما تقدم بهم السن. هذه المشاعر التي تتعمق منذ الحمل حتى الوفاة مهما شاب جمالها من عقوق أو جفوة تظل عند كل الأمم رمزا لأسمى العلاقات ومثاراً لنكران الجميل. وقد يحرم بعض الأبناء من صحابة أمهاتهم لطلاقها فيجد من أسباب الحرمان من حنانها ما تجد هي من الاشفاق عليه، وقد تضحي براحتها وسعادتها مع زوج لا يقيم للعلاقة الزوجية وزنا من حيث المودة والرحمة فتظل تعاني من جوره محافظة على بقائها إلى جانب أبنائها وصبراً على قسوته خوفا من أن يتولى تربيتهم زوجة بعدها تذيقهم ويلات كراهية الضرة، ما ينعكس على نفسياتهم تشوقا لرؤية الأم، فإذا ما التقيا غرقا في سيل من الدموع. وقد ضوعفت التوصية بها وقدمت على الأب لهذه الأسباب. فمشاعر الحنان ورد الجميل الذي لا يوازي ما كابدت من عناء في الحمل والولادة والتربية والاشفاق، أسباب قدمت الأم على الأب في الصحابة مع الاحتفاظ لهما بحق البر بهما تقديراً لفضلهما وكسباً للحسنات. في رسالة من الأخ مبارك الدوسري تحمل قصة أم أودعها ابنها دار رعاية المسنين بناء على أنفة زوجته من وجود الأم معهما. وفي الدار تولى العناية بها جهاز طبي واخصائيات وطاقم خدمة فوجدت الأم عناية لم تُنسها ابنها والتطلع إلى مشاهدة أطفاله وسعادته الزوجية، فأبدعت قصيدة أودعتها طبيب الدار وطلبت منه تسليمها لابنها عند وفاتها، لاسيما وقد مر على وجودها في الدار ثلاث سنين دون أن يزورها ابنها. وعندما توفيت الأم استدعى الابن لاستلام جثمانها، وعندها قدم له الطبيب الرسالة. فض الابن الرسالة التي يجهل الطبيب محتواها دفعا لاطلاعه على عقوق ابنها. وكانت تحتوي على الأبيات التالية: يا مسندي قلبي على الدوم يطريك ما غبت عن عيني وطيفك سماية هذي ثلاث سنين والعين تبكيك ما شفت زولك زايراً يا ضناية تذكر حياتي يوم اشيلك واداريك واداعبك دايم وتمشي ورايه ترقد على صوتي وحضني يدفيك ما غيرك احدٍ ساكنِ في حشايه وليا مرضت اسهر بقربك واراعيك ما اذوق طعم النوم صبحى ومسايه يا ما عطيتك من حناني وابا اعطيك تكبر وتكبر بالأمل يا منايه لكن خسارة بعتني ليش؟ وش فيك؟ واخلصت للزوجة وانا لي شقايه أنا ادري انْها قاسية ما تخليك قالت عجوزك ما أبيها معايه وخليتني وسط المصحة وانا ارجيك هذا جزا المعروف وهذا جزايه ياليتني خدامة بين اياديك من شان اشوفك كل يوم برضايه مشكور يا ولَيْدي وتشكر مساعيك وادعي لكم دوماً بدرب الهداية محمد ويا محمد ترى امك توصيك أخاف ما تلحق تشوف الوصاية أوصيت دكتور المصحة بيعطيك رسالتي وحروفها من بكايه وان مت لا تبخل علي بدعاويك اطلب لي الغفران هذا رجايه وامطر تراب القبر بدموع عينيك ما عاد ينفعك الندم والنعاية هذه مشاعر أم تغادر الحياة محرومة من حنان الابن، محبطة من جفوته. ترى ماذا كان سيفعل لو لم يجد داراً لإيوائها وخدمتها؟ كثيرة هي حالات العقوق في الماضي والحاضر. أن يضعها في دار الرعاية مطمئنا إلى راحتها فذلك حماية لها من قلق الحياة إلى جوار زوجة لا تكن لها من الود والرحمة واحترام زوجها ما يجعل الأسرة سعيدة ويسعد الأحفاد بقرب جدتهم تؤنسهم وتظلهم بأجنحة الرحمة، وذلك أرعى من وجودها في سكن مستقل إلى جوار خادمة قد لا تعنى بها. أما ألا يزورها ويطمئن عليها ويشعرها بأمومتها فتلك المأساة. أما الزوجة فقد نعذرها إذا ما فكرنا في تطلعها إلى حياة تغمرها العصرية بعيدا عن الملامة على تصرفاتها التي قد تنكرها الأم لأسباب صراع الأجيال والتغيرات السريعة التي طرأت على الحياة بما فيها من تقاليد لا تريح الآباء والأمهات. البر بالوالدين لا يكون على حساب الآخرين بدون رضاهم، وإنما بالسعي عند اختيار الزوجة وبما يصنع الوئام بين الأطراف الأسرية، على ألا نعطل قيمة البر بالأم فلها أولوية الحق بالبر بها، وما جاءت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بها عبثا وعلينا الالتزام بها. ما لا يُختلف حوله هو نسيان البر بالأم وحرمانها من الاستمتاع بتحقيق آمالها وسعادتها بالحياة الطبيعية بين من تحب، فتلك مأساة ارتكبها الابن وانتقمت منها الأم بأبيات وقعها قاس عليه عند تذكرها وعند اطلاع الآخرين عليها وبخاصة أبنائه. وقد نشأت الأبيات من قهر الأم من تأليب زوجة ابنها. لا تظنوا استمرار الأفكار فهي تتحول وفق تحولات الحياة، فالحب والكرامة معايير أصبح لها سطوة في المجتمع. فالعلاقات الزوجية تبنى على معايير تخضع لعديد من الاعتبارات. رفقاً بالمشاعر، وحفظا لحقوق الآخرين. اللهم ارزقنا البر بالوالدين وحبب زوجاتنا بهما.