في الاحتفالية التي اقامها المجلس الاعلى للثقافة بمصر بمناسبة مرور مئة سنة على ولادة يحيى حقي القاص والروائي والباحث والكاتب، بدأ يحيى حقي اديباً مرشحاً للبقاء، جنباً الى جنب مع مجايليه من امثال توفيق الحكيم وابراهيم عبدالقادر المازني وهذا الرعيل. فمن استمع الى سيرته الذاتية كما رواها بنفسه في مقدمة «اعماله الكاملة» التي اعادت مصر طباعتها من جديد، كما رواها باحثون ودارسون مصريون، بدأ صاحب «قنديل ام هاشم» رائداً تاريخياً لا يقل اهمية عن اقرانه. فهو كاتب كبير كما هو انسان كبير. اعطى يحيى حقي عناية خاصة لسيرته الذاتية. ولذلك نجدها تتنوع بين مجموعة من الكتب من اهمها: «كناسة الدكان»، و«خليها على الله»، و«دمعة فابتسامة». كما انه روى جوانب من هذه السيرة لابنته نهى وتلميذه ابراهيم عبدالعزيز نشرت تحت عنوان «يحيى حقي/ذكريات مطوية». وسيرته شديدة التنوع تنطلق دائماً من حس انساني غامر ومشاعر مرهفة. فهو يقول، على سبيل المثال: «زال من قلبي كل اثر للتعصب.. وكنت اذا اتيت انساناً حيا او اسماً على كاتب او شاشة، لا اسأله عن دينه او جنسه. كل الذي يعنيني هو وفرة ما يملكه من قيم انسانية، وقدرته على جذبي الى الفضيلة والخير والجمال». وقد تحدث هؤلاء الباحثون والدارسون في ندوة استمرت ثلاثة ايام عن وجوه مختلفة، او عن جوانب مختلفة، في شخصيته وعما يفرقه عن مجايليه من كبار كتاب مصر. فيحيى حقي بنظرهم كان اكثر انفعالاً بالحياة الشعبية وبالاسلام بصفة خاصة، باعتباره محوراً اساسياً في الهوية المصرية المعاصرة. وكانت تستهويه الافكار الدينية التي قد يعتبرها البعض يمينية، وقد ذكر احمد عباس صالح في الندوة انه رآه في مجلس الكاتب الاسلامي محمود محمد شاكر وهو يوقره على الرغم من تقارب السن، وربما كان حقي اكبر منه سناً. وكان شاكر يشكل في الحياة الثقافية المصرية الجانب الآخر المقابل لطه حسين وتوفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض ومحمد مندور الذين من الممكن اعتبارهم الداعين الى التحديث والوثوب الى مرحلة الحداثة بأسسها الفكرية التي ترتكز على التنوير والمنحى العقلاني والتجريبي والعلمانية. كان يحيى حقي متحمساً جداً للتراث العربي الاسلامي. ولكنه كان عالماً بحق هذا التراث، وكان محصوله اللغوي هائلاً. وقد اتاح له يحيى حقي ان ينشر تفاسيره لبعض القصائد التي نسبت الى العصر الجاهلي في مجلة المجلة، وكانت من اروع الدراسات التي كتبت عن العصر الجاهلي. ويبدو ان المنحى الديني عند يحيى كان اقرب الى ان يكون وطناً من ان يكون اعتقاداً فقط. كان يحب القاهرة القديمة ويعتبرها تكوينات جمالية بشوارعها ومساجدها وحوانيتها وموالدها. لقد كان ينتقدها احياناً، ولكن نقد المحب والعاشق. ومثل هذه التركيبة التي يلعب فيها الوجدان التأثير الاكبر، كان «الذوق»، او «التذوق» هو معياره في النقد الادبي، وفي تنظيراته المتناثرة في مقالاته. وعلى هذه الحاسة المرنة، التي لا يمكن ان تكون معياراً موضوعياً خالصاً. وكان الجمال عنده شيئاً شعورياً كائناً ينمو ويتطور بالثقافة والفهم وبما يملكه الانسان من استعدادات لتلقي الجمال والتفاعل معه. لذلك كانت كتاباته النقدية عملاً ابداعياً بالغ الجمال. وعلى الرغم من ارتباطات يحيى حقي بالتراث والفن الشعبي والهوية الاسلامية، لا يستطيع احد ان يتهمه بالرجعية او حتى يصنفه مع اليمين السياسي، اذ كان حسه الجمالي هو الذي يقوده في كل مجالات ابداعه اكثر من المضامين الفكرية. وكان أقرب الى الفن للفن من حيث تركيزه المكثف لبناء أعماله الفنية، بل حتى في مقالاته الفكرية او النقدية. ولهذا السبب كانت قراءته ممتعة سواء كان القارئ على هذا الجانب السياسي او ذاك. ويعثر القارئ بين ثنايا اعماله الكاملة على اضافات حقيقية، وبخاصية لتاريخ مصر الاجتماعي في النصف الاول للقرن العشرين الذي عرفه يحيى معرفة مباشرة. فهو ينتقي ويحلل العديد من الصور والشخصيات الدالة الموجبة والمواقف المؤثرة في الحركة الاجتماعية من خلال معايشة صادقة ورؤية ثاقبة، بحيث يمكن ان يوصف بأنه «جبرتي» عصره من خلال اطلاعه على «صفحات من التاريخ المصري» الحديث، وبشاعرية دافقة تعرض لبعض القضايا المسكوت عنها في القراءة التاريخية التي اهملها الكثير من المؤرخين التقليديين المحدثين. وقد ذكر بعض الباحثين في الندوة ان يحيى حقي لم يكن مجرد مبدع ومثقف مستنير ومفكر متألق، وانما كان قبل كل هذا انساناً مبدعاً وحساساً له امانيه وأحلامه التي تتعلق بكل ما هو انساني وشامل، وترتبط بالقيم العامة. كما كانت له رؤيته الاستشرافية التي حملت في ثناياها صورة المستقبل القريب والبعيد معاً. لا يُذكر يحيى حقي إلا تُذكر معه قصته الأشهر «قنديل أم هاشم» التي يقول في السيرة الذاتية التي كتبها ان الذي أوحاها له صديق له عمل سفيراً لمصر في الهند. وهي قصة انسانية مؤثرة تختلف باختلاف القراءات. فهي في نظر البعض تصوير للصراع الحاصل بين ثقافتين مختلفتين احداهما شرقية مشبعة بالايمان، وأخرى غربية مشبعة بالعلم. او انها ترسم محاولة خلق معادلة توفيقية بين روح الشرق ومعرفة الغرب. وهي في نظر البعض الآخر رواية ذات نزعة وطنية تنتقد تخلف المجتمع المصري في الفترة التي تشير اليها الرواية وتحاول تغييره بعلم الغرب. ولكنها بنظر آخرين رواية لا تنجح في تجاوز سلطة الخرافة ما دامت تجعل بطلها يرتد الى الاعتداد بها بعد ان كان قد تسلح بالعلم. وهي رواية رومانسية شعرية ترسم ذلك التعاطف الفردي الساذج مع الطبقات الفقيرة في مصر. الى آخر تلك التصورات التي نبتت في الحقل النقدي العربي. على ان أغلب النقاد اتفق حول كون هذا النص يعتبر علامة متميزة في تاريخ القصص العربية. أولاً كونه من النصوص القصصية الاولى التي وضعت لبنات الرواية العربية نظراً للطول النسبي لقصصه، وهو ما يقربها من حجم الرواية. ولأنها - ثانياً - قصة عملت على تطويع اللغة العربية للتعبير القصصي، واخراجها من دائرة المقامات وما كانت تحفل به من لغة مقيدة بالاسجاع والمحسنات البلاغية. كما ان هذه القصة عالجت موضوعاً حساساً في تلك الفترة من تاريخ المجتمع العربي، وهي فترة الاربعينيات، التي كان فيها الغرب يتحدى، بعلمه وقوته، المجتمع العربي الغارق في أوحال التخلف، ولكنه معتز بايمانه وعاداته وتقاليده. على ان يحيى حقي كتب في مجالات كثيرة غير القصة، كما ان ان قصصاً اخرى يفضلها الكثيرون على «قنديل أم هاشم»، ك «البوسطجي».. كما انه كتب في النقد، والرحلة، والسيرة الذاتية، والمقال. وكتب ايضاً في جنس من الكتابة سمّاه لوحة. وفي ذلك يقول في مقدمة كتابه: «عنتر وجولييت»: وقد ألحقت هذه القصص بشيء لا أجد له وصفاً أكثر من كلمة «لوحات». فهو متردد بين الانتساب من قريب الى المقالة والانتساب من بعيد الى القصة القصيرة. فليس غرضه الأول هو عرض آراء، بل وصف الحياة وطبائع البشر. والحقيقة ان اللوحة مصطلح يجري في مجال فن الرسم ويتلبس بأحواله. وبذلك ننتقل في مظان الرؤية الى فن الكتابة. ولكن يحيى حقي يستصفي أهم سمة له في الرسم ليلحقها بهذه الكتابة: التمثيل بالوصف والاظهار. وقد ظهر يحيى حقي في احتفاليته رائداً كبيراً. فهو عاشق متورط في حب الناس، وبخاصة الفقراء والضعفاء منهم. وبلغ من حسه بضرورة ان يكون للعرب مجلة ثقافية واحدة ان دعا في أواخر أيامه الى مجلة عربية مركزية يكون اسمها «مجلة المجلات العربية» تحوي أمهات المقالات، والابحاث الثقافية التي تنشر في مجلات الاقطار العربية. وقد أوصى بألا يمشي أحد في جنازته. فقد أراد أن يرحل خفيفاً كما عاش. ولذلك كانت حياته نوعاً من سيمفونية جميلة.