اختار طه حسين في سيرته الذاتية "الأيام" ضمير الغائب وسيلة للافضاء بما في نفسه، وقد يبدو غريبا الا تعتمد سيرة ذاتية على ضمير المتكلّم، فهو مناسب لها، ولائق بها، ولكن استخدام ضمير الغائب في الحديث عن الأنا له دلالة المباعدة، والمواربة، فقد وضع طه حسين بينه وبين العالم الذي تحدّث عنه مسافة، فصلهما عن بعض ضمير الغائب، الذي ارتبط براوٍ عليم ملّم بأحواله كلها، وهو يحيل على طه حسين نفسه، وقد جرّد منه الشخصية التي لها صلة بتلك الأحداث، فإذا كان لنا أن نصف ضمير المتكلّم بالإبصار، فضمير الغائب بالعمى. يحول ضمير الغائب دون الرؤية الحية للعالم الذي يعيش الراوي فيه، ويعوق المشاركة المباشرة فيه، إنما يرتب تلك العلاقة عبر وسيط، ولا تبدو الوساطة في السرد الذاتي محل تقدير كبير لما تسبّبه من إبعاد بين الذات وموضوعها، فاستخدام ضمير الغائب يتيح للراوي الحديث عن نفسه، وعن العالم، وكأنه شخص آخر، وبذلك يغيب التداخل فيما بينهما، أو يتوارى فلا يثير الاهتمام، لأن المخالطة بين المتكّلم وعالمه عرف من أعراف الكتابة الذاتية، وباستخدام ضمير أعمى تطابق طه حسين مع حاله، فثمة انفصال بينه والعالم الذي استعاده بالسرد، وذلك مماثل لحال الانفصال بين بطل "الأيام" وعالمه. يخضع استخدام الضمائر في الكتابة السردية لضرورات العلاقة بين الكاتب والعالم الافتراضي، فباستخدام ضمير المتكّلم يؤكد الراوي حضورا مباشرا في معاينته للأحداث، وفي علاقته بها، لأنه يتولّاها بنفسه، فيما لايحقق ضمير الغائب إلا حضورا ضمنيا للراوي، لأنه لا يباشر الأحداث بذاته. ويتأدّى عن علاقات حضور الراوي وغيابه موقفان، موقف أول يتأكّد فيه وجود الراوي في قلب الأحداث التي يرويها، فيكون راويا من الدرجة الأولى، وموقف ثان يترجّح فيه وجوده بمنأى عن الأحداث، فيكون بذلك راويا من الدرجة الثانية، ويترك الموقفان أثرها في التلقّي بين تصديق بالوقائع أو ترجيح لها، على الرغم من أن الميثاق السردي لايعول على المصداقية أو عدمها. يخفي ضمير الغائب أكثر ما يظهر، وتتوفّر في استخدامه درجة من مجانبة التصريح، ويتعثّر البوح به لأنه يقارب موضوعه من الخارج، فيما يفترض البوح ضميرا ملازما للذات في بوحها، ويرى اللغويون بأن ضمير الغائب لا يتوافق مع حال الرؤية والمشاهدة، فيما تتوفر تلك الحال في ضمير المتكلّم، وبوضع مسافة تفصل المتكلم عن موضوعه، يقع فصل الذات عن الآخر، فيتوارى المؤلف خلف ضمير مبهم يستعين به كيلا يتورط في أحكام تُنسب إليه، فليس من المتاح إسناد الرأي للمؤلف بجزم مؤكّد، إنما على سبيل التأويل، ولكن من فضائل استخدام ضمير الغائب أنه يحمي المؤلف من الغرور، والادّعاء، والابتذال، والتعالي، ويحول دون الطعن به، وربما يرسم له وقارا في كونه يحرك شخصياته كالدمى دون أن ينخرط في مشاركتها أفعالها، لكن ذلك قد يفضي به إلى أحادية في الرأي لأنه حال دون الافصاح عما يضمر هو أو الشخصيات في النصّ الذي يكتبه، فصوته هو الوحيد المانح لشرعية الأحداث والاشخاص والأفكار، فلا غرابة أن يتلازم ضمير الغائب مع راو كلي العلم، لا يفصح عن مصادر معلوماته، ويكتنز معرفة شاملة تحيط بكل شيء قريب عنه أو بعيد، وهو، بالإجمال، يحيل، بدرجة ما، على المؤلف الذي مازال يعتقد بأنه مالك النص، ومسيّر شؤون شخصياته وأحداثه. أكثر طه حسين من استخدام صيغة الغياب فيما أملى وتحدّث، فضمير الغائب مناسب له، ومفضّل لديه، وصالح للاستعانة به من طرف مؤلّف موسوعي تبحّر في شعاب الآداب، كيفما أراد، بدون حدود أو قيود، ناهيك عن أنه غير قادر على رؤية تلك الحدود والقيود في حياته اليومية. وقد أتاح له ضمير الغائب العبور إلى المكان الذي يريد، ويرغب، دونما مساءلة. وجدير بالذكر أنه ألقى محاضرة عن ضمير الغائب في القرآن في مؤتمر المستشرقين السابع عشر الذي عقد بجامعة أكسفورد في عام 1928 شدّد فيها على أهمية ذلك الضمير، والاتكاء على ضمير الغائب فيما أملى جعل الصيغة الشفوية ظاهرة في مؤلفاته السردية والنقدية والفكرية والدينية، فهو يتحدث مشافهة أكثر مما يصوغ أفكاره بالكتابة، ولهذا تخلل أسلوبه السجع، والايقاع، والتنغيم، والاطناب، والتفصيل، التكرار، والغزارة اللفظية، والاستدراك، والتجريد، وكلها من مقتضيات التعبير الشفوي. استخدام طه حسين لضمير الغائب في سيرته الذاتية جنّبه التصريح برؤية أشياء يتعذّر عليه ملاحظتها، ومقاربة موضوعات وجدانية يصعب عليه استبطانها، ولهذا استغرق في الأوصاف العامة التي تزود بها من مسموعاته ومقروءاته، إذ كان يرى العالم بعيني غيره، ويتواصل مع أفكار الآخرين بلسان غير لسانه، لكنه يصف العالم للآخرين ببصيرته، ويناقش تلك الأفكار بلسانه هو، فارتسم العالم الذي يكتب عنه عالما شبه تجريدي يكاد يفتقر إلى الأعماق الحميمة، والتواصل المباشر، وتأدّى عن ذلك أن ظهر بون بين خطابه اللفظي وتجربته الحياتية، فقد فصل ضمير الغائب بينهما، من الناحية الأسلوبية، وكأنها تجربة حدثت لرجل آخر يتوسطهما راوٍ عالم بالاثنين. وتلك من خصائص الأساليب الشفوية القائمة على الاصغاء والحديث. هيمنت صيغة الغايب على كتاب "الأيام" لكن جملا قليلة بصيغة المتكلّم أو المخاطب نفذت إلى سطح الأسلوب، ثم انطفأت دون أن تترك إلا أقل ما يمكن تصوره من أثر في البنية الأسلوبية للكتاب. والحال هذه، فثمة ظاهرة جديرة بالاهتمام تتصل بالتعمية والتصريح، وبضمير الغائب وبضمير المتكلم، وبالعمى والإبصار، وصلت إلى درجة الانكار أو الاعتراف، بالأفراد الذين أحاطوا به طوال حياته من أقرباء وغرباء، فطه حسين قام بتجهيل الأقارب، بما فيها نعت نفسه ب" الصبي" أو" الفتى" أو "الشيخ"، لكنه صرّح بهوية الأباعد من أساتذته في القاهرة وفرنسا، وبخاصة المستشرقين، فالراوي القابع خلفه لا يرى "الأقربين "إنما يبصر "الأبعدين" وذلك موضوع شبهة مرتبط بالسبب الذي جعله مزدوجا في إنكاره وتعريفه، وتزداد الشبهة حين يتضح أن الأفراد الأكثر قربا من دائرة حياته الشخصية، وبخاصة أفراد أسرته "هم الذين يفتقدون إلى الهوية الاسمية" مع أن الاسم "يعطي الشخصية هوية ذاتية" وبموجب ذلك فقدت تلك الشخصيات "ذاتيتها بعدم تسميتها" كما قرّرت ذلك فدوى مالطي دوغلاس في دراسة شائقة عن كتاب" الأيام"، على الرغم من أن تلك الشخصيات أحاطت بحياته إحاطة السوار بالمعصم، ورعته صغيرا وكبيرا، فيما اخترق الأباعد غطاء التجهيل، وانتزعوا الاعتراف بهم، وترتّب على ذلك أمر العلاقة الملتبسة في حياة طه حسين مع الآخرين، الذي تراوح بين إنكار الجماعة الأولى، والاحتفاء بالثانية. يمكن تأويل علاقة طه حسين بالآخرين، في حياته، وفي سيرته، على أنها قامت على قاعدة من عدم اهتمامه بالقريب، إنما بالغريب، والتفسير المقبول في هذه الحال، إن كانت صحيحة، هو أن حياته الشخصية تشكّلت خلال مرحلتها الأولى في وسط قروي لم يستحق منه الاعتراف الذي يستدعي التسمية، فيما احتفى بالعالم الذي أصبح هو مركزا فيه، فصار التعريف بمجتمعه العلمي أو الأدبي عبر التسمية اعترافا بذاته التي تبوّأت موقعا عجز المبصرون عنه. وبعبارة أخرى، فليس من الخطأ، بالنسبة إليه، تجهيل حقبة كان فيها مرميا في عالم غفل لا مأثرة فيه، إنما من الصواب، بالنسبة إليه، أيضا، تعريف حقبة تالية بأشخاصها في عالم جديد عليه، ولطالما كان طه حسين يرنو ببصيرته إلى عالم ما وراء البحر حيث يملك "الغريب" الحقيقة الكاملة، فيما خيم جهل "القريب" حوله. غياب البصر غيبّ الأقرباء، وحضور البصيرة عرّف بالغرباء. غمر الوصف الخارجي عالم طه حسين. كرّس ذلك ضمير اختصّ به، فلا غرابة في أمر رجل يتلمّس طرق حياته عبر مزيج من العميان والمبصرين، إذ عاش بين نخبة من المكفوفين، فشيخه أعمى، وجدّه أعمى، ورفيقته في المدرسة عمياء، وأستاذه في تعليم اللاتينية والفرنسية في باريس أعمى، ومثله الأعلى أبو العلاء المعري أعمى، وصاحبه الأندلسي "ابن سيده" أعمى. لكن عماه جعله في حاجة ماسّة إلى المبصرين، وتلك الحاجة جعلت منه تابعا لهم، وقد أفاض في وصف حاله تابعا، في القرية، وفي القاهرة، وفي أوربا، فثمة متبوع يوجهه، ويأخذ بيده في كل صغيرة وكبيرة. في البدء كان المتبوع فردا من الأسرة، وما لبث أن خصّ نفسه بمتبوع يرشده، ويقرأ عليه، ويدوّن له، ولم يقتصر دور المتبوع على التوجيه والقيادة، والقراءة والكتابة، إنما كان العين البصيرة له في الإلمام بما حوله، كما كان الراوي العليم في سيرته. كان طه حسين في حياته الفكرية متبوعا، فيما كان تابعا في حياته اليومية، ووسيلته في الأولى البصيرة الثاقبة، وفي الثانية العمى الذي حجب عنه رؤية الأشياء. لم يكن طه حسين في حال اختيار غير مشروط في استخدام الضمائر، إنما استدعت حاله الاعتماد على الضمير الموافق لها، فانعدام الرؤية البصرية أبعد عنه ضمير المتكلم الذي اختص بذلك، فحل محلّه ضمير الغائب ليكون معبّرا عما يتمكّن من التعبير عنه، كما حلّت بصيرته محلّ بصره. Re: ميراث العمى