ونتابع في الأولى الجزء الثاني ( من أسرار تجارة الجواري والعبيد في الحجاز قبل وأثناء الحكم السعودي ) وفيه : - آخر تُجار ووكلاء العبيد في جدة: وكان من اشهر دلاّلي الجواري في جدة: باسترة أفندي، وأبوالسعود [85]. وفي رسالة من اسماعيل افندي حول العبيد في التاسع من مارس 1933م من مقتنيات الخارجية البريطانية، عدّد اسماء كبار وكلاء العبيد في جدة، مزودة بهويّاتهم الجهوية: “كبار وكلاء العبيد في جدة: حسن العمودي (حضرمي) وأحمد بن سيف (من بدو الحجاز) وشمعون بن عمر (صومالي/ايطالي) واحمد الحنبولي (جدّاوي) وأبو زيدان (جّداوي) والليّاتي (جدّاوي)". [86] وبات العبيد يرسون مباشرة في ميناء جدة، عكس السابق حينما كانوا ينزلون في النزلة اليمانية حيث يقيم الوكيل ابن سيف. وتقمّص اسماعيل افندي مع صديق جدّاوي دور الراغب في الشراء ليراقب اوضاعهم: “كانوا في اقبية احد البيوت، حيث الجو خانقاً والروائح لا تكاد تطاق والدكّة كان فيها رجال ونساء مختلطون". وآخر مقر لبيع العبيد في جدة كان في منطقة حوش الهواشم – داخل سور المدينة القديم. واحد مكافحي تجارة العبيد في ساحل جيبوتي هو السيّد علي العطاس، وهو أخ السيّد حسين العطاس من تجار وأعيان جدة. كان العطاس قد اخبر نائب القنصل البريطاني في جيبوتي بتحركات تجارة العبيد الأخيرة، وكان يعتبر ان من لا يُخطئه ضميره بحمل العبيد والمتاجرة بالبشر سيقع في كل محظور آخر. وكان الشيخ محمد بابو احد شيوخ دنقلة ومحتكر تجارة العبيد في ساحل جيبوتي في عام 1934م، قد فرض على جميع السنابيك المغادرة مينائي تاجورة و أوبخ بحمولات العبيد الى ميدي او جيزان ان تجلب معها في ايابها حمولات سلاح. فكانت السنابيك تتظاهر بنقل الخشب والفحم لكنها تقايض حقيقةً العبيد بالسلاح. [87] وفي احصاء لعام 1931م.. قُدر عدد العبيد في السعودية بأربعين ألفا، وُزعت جغرافيا كالتالي: مكة: ثلاث الاف. جدة: ألف. رابغ: خمسمائة. الوجه وينبع والطائف والمدينة وشمال الحجاز: خمسمائة. القنفذة، ميناء البرك، جيزانوعسير: عشر آلاف. بادية الحجاز: خمس آلاف. الرياض وبادية نجد وخصوصا واحات الاحساء والبريمي: عشرون ألفاً. [88] وانحصرت اجناس العبيد في هذه الفترة بين سودانيين او اثيوبيين حاميين او تكارنة.. ونساء يمنيات. وعند اهالي الحجاز كان يوجد نفر قليل من جواري وعبيد جاويين وهنود وسوريين وماليزيين. في عام 1932م رفض قاضٍ من محكمة مكة الشرعية منح صك اعتاق لعبد تم تحريره كون الحكومة قد اخطرته بعدم القيام بذلك لأي عبد عمره يزيد عن العشرين عاما. وفي 22 فبراير 1934م.. اُرسل السير ماكسويل من قِبل لجنة الرقيق بعصبة الأمم واصدر تقريرا عن حالة العبيد بين افريقيا والجزيرة العربية. ونشطت البوارج الحربية البريطانية في تفتيش السنابيك في المياة الدولية بالبحر الاحمر بحثاً عن العبيد. وقبضت على 56 عبداً في 1931م، و35 عبداً في 1932م، و35 عبداً في 1933م. [89] وفي اكتوبر 1936م خطت السلطات السعودية أكبر خطوة فيما يخص الحد من الاتجار بالرقيق في الجزيرة العربية. فصدر في الثاني من اكتوبر 1936م، المرسوم المعروف ب: تعليمات بشأن الاتجار بالرقيق، من ستة عشر مادة. وحظر المرسوم ادخال الارقاء الى السعودية عبر البحر او البر (مالم يبرز جالب الرقيق وثيقة حكومية رسمية تخوّله بذلك).. كما حظر استرقاق الأحرار. والمرسوم- وان لم يلغ ممارسة الرقيق، الا انه اعترف بها كظاهرة ونظمها وجعل للعمل فيها وكيلاً او سمساراً برخصة رسمية. اما من يخالف تلك التعليمات تنذره الحكومة بعقوبة حبس لمدة لا تزيد عن سنة. لكن هذه القرارات وماجلبت من محاسن على نفسيات الرقيق الا انه ترتب عليها مساوئ جديدة – اذ ازداد اصرار الملاك على ابقاء عبيدهم للندرة الحاصلة في الأسواق فنتج عن ذلك تقلص مطرد لنشاط العتق. واستمرت الممارسات بشكل مُستتر. وكان جابر احمد من اهل كسلا في السودان في أسر العبودية في الحجاز حتى حرر في عام 1927م.. وحينما عاد للحج بعد عشر سنوات في 1937م رصده مالكه السابق الحسين بن علي الحارثي من أشراف المضيق، واثر مشادة وقعت بينهما أصر الأخير على استعادته فعصى لكنه ألحقه بحاشيته بالقوة. فارسلت القنصلية البريطانية من السفير بولارد للأمير فيصل نائب الملك تطالبه باطلاق سراحه في الثاني عشر من يونيو 1938م، فنال حريته ورحل ادراجه على احد سفن شركة جلالتي هنكي الى ميناء سواكن. [90] وفي يونيو 1936م باع علي بريمة ياسين وزوجته ست الأهل في مكة، آمنة التي ادعيا انها ابنتهما، ثم رحلا برا لليمن ومنها للفاشر. تُركت آمنة عند الشيخ حسن زيني وهو رجل طاعن في السن، الذي سلمها بدوره لابن ناصر تاجر الرقيق النجدي في مكة الذي عرضها على كذا منزل فنزلت عند بيت السادة آل المرغني الذي كان يخلو من الذكور، واشترتها سيدة ومكثت معها عاماً كاملاً ولكنها مرضت فاضطرت الى بيعها لتذهب للعلاج في مصر، فاشتراها محمد الشيبي ب 35 جنيهاً ذهبياً استرلينياً، وقبل شراءها عرضها على سيدة قابلة اكدت انها لم تنجب من قبل، وظلت عنده ثلاث سنوات دون ان يُعاشرها. ثم عادت لسيدتها القديمة في بيت الميرغني لانها كانت تحسن معاملتها وهناك وجدها القنصل البريطاني واستدعاها وارسلها الى السودان. [91] ومع عام 1943م خفت نشاط شراء الجواري، واصبح التسري يمارس بعيداً عن أعين الزوجات اللاتي بِتن مع الانفتاح على العالم يرفضن على أزواجهن ذلك النمط الشاذ من الممارسة الجنسيّة. [92] وكان آخر ثلاثة وكلاء للعبيد في مكة في يدهم كل التجارة: وكان آخر المسيّطرين عليها بحسب وثائق الخارجية البريطانية: ميمش، والقرّعا، وبن ناصر، والأخيران نجديّان. [93] وصعد افراد من نجد في دلالة العبيد في مكة، كون بوصلة جلب الجواري الى مكة باتت تتجه شرقاً، حيث تجلب الجواري من التجار النجديين عبر واحة البريمي والساحل الغربي للخليج: بلوشيات وفارسيات بدلاً من الأجناس المعتادة الافارقة والاحباش والجاوا. [94] ومن ابرز التجار النجديين في سواحل الخليج: عبدالله بن سالم بن غراب، ومبارك وعبدالعزيز الدليمي، وعلي بن موفي الودعاني، وسليمان بن موسى، وعبدالله بن خفره، وعبدالله بن غانم العوار وهذا الاخير كان اصبعه الاوسط في يده اليمنى مقطوعا وكان يبيع الجاريات في الدوحة. وحينما قُبض عليه في سبتمبر 1952م حلف أيمانا مغلظة انه ترك التجارة منذ خمسة عشر عاما وانه يعمل الان في الزراعة وان المشتبه به هو عبدالله بن غانم القطري وهو شخص آخر ولكن تبين لاحقا ان كلاهما يعمل في تلك التجارة. ونحن لا يمكن ان نجزم ان جميعهم كان يتاجر بشكل حصري في العبيد، لكن اسماؤهم وردت في الوثائق البريطانية مرة واحدة على الأقل. وطالب السفير السير تروت في ديسمبر 1947م، من يوسف ياسين من الخارجية السعودية، بملاحقة المتورطين في تجارة الرق في البحر الاحمر، وانزال اشد العقوبات عليهم، وكانوا: احمد ابوصالحه في ميناء البرك (عسير)، بن سيف في الرويس، وحسن العمودي في جدة. [95] وفي 1948 قبضت السلطات السعودية على احمد علي ابوصالحة وهو يُهرّب العبيد سراً من مصوّع الى ميناء البرك في عسير. [96] ومن تجار العبيد في الرياض حينها بحسب الوثائق البريطانية: ابن غراب المري، وجابو بن حضفه وبن عبدربه، وهم يحضرون الجواري عبر حمد البوشامس من دبي او مسقط الى كبار المستهلكين في الاحساءوالرياض. وكان كبير التجار في سوق الرياض اسمه عبدالله بن مروان. [97] في الرياض كانت الجارية الجميلة تباع بسبعة عشر الف ريال، والمتوسطة الجمال تباع بسبع الى ثماني آلاف. ومع عام 1948م خفت اهتمام السعوديين باقتناء العبيد الذكور. [98] وفي الخمسينات الميلادية تلاشت تجارة العبيد، وانقشعت مظاهر العبودية تقريبا عن جدة، فيما بقيت في الرياضومكةوالمدينة، وان حُصرت في الجاريات المجلوبات من حضرموت واليمن والبلوشيات المجلوبات من السواحل المسقطية والسواحل المتصالحة. فلم تعد تأتي الافريقيات، من موانئ جيبوتي والصومال، كما في السابق. وفي السادس والعشرين من نوفمبر 1952م ارسل يوسف ياسين، من الخارجية السعودية، خطاباً لبيلهام يخبره ان الحكومة السعودية ترغب في اخطارها عن اي رعايا سعوديين يرحلون الى امارات الخليج بحثاً عن عبيدهم الفارين. وان الحكومة السعودية لا تريد التهاون في هذا. [99] وفي نوفمبر 1953م ارسل السفير الفرنسي في جدة قائمة بمن يشتبه بهم بنقل العبيد الى ساحل جدة وذكر منهم: أحمدو بوبوي وهو سنغالي مقيم في جدة، والشيخ عبدو بجني من النيجر يقيم في جدة، والشيخ عبدالله البحيري من كبار حارة اليمن في جدة وهو من شيوخ الدلالين. [100] واتبعها بقائمة لدلالين اقسم يقيناً بأنهم يبيعون الجواري مباشرة للقصور والمتنفذين والميسورين، وهم: عمر كِندي – سنغالي في مكة، حاج محمد عمر فتاي – سنغالي في جدة، تيرنو يوروبا – سنغالي في جدة، احمدو تديان ديو في جدة، حاج بلي – سنغالي في مكة، محمد طاهر – من الطوارق يقيم في السودان ويتاجر في جدة، ومحسن – وهو نيجيري موظف في شركة باكر الامريكية في جدة. [101] وقُبض على محمد حسين وهو يتاجر في الكربلاء والنجف وكان يجمع خمسين فتاة صغيرة ليحضرهن للرياض وقد حكم عليه في العراق عام 1955م بالسجن عشر اعوام. [102] وضرب الكساد سوق الرياض حيث كان يتعيّن على كل تاجر عبيد ربط سبع الى ثماني من العبيد خلفه والمشي بهم، فيما كانت دكة الرقيق في مكة تحتضر وتعيش آخر أيامها. [103] - ضغوط دوليّة ومحلية يتوّجها قرار الفيصل التاريخي: لم يكن عقد الخمسينات رحيماً على سمعة وصورة السعودية دولياً، كما كانت مهمة الدبلوماسية السعودية لترطيب الاجواء وتحسين صورة البلاد مُضاعفة. وفي عام 1953م قامت حملة تلفزيونية وصحافية كبرى في فرنسا على قانون الرقيق في السعودية. كما اشتدّت ضرواة دعوات الخارج -والداخل- على الحكومة لحسم ملف العبيد وطي صفحته للأبد. واستوعبت الحكومة المعاتيق الحديثين في مكة او المستقرين فيها بعد موسم الحج من جاليات التكارنة وفرضت عليهم دفع رسوم اقامة سنوية.. وقام الأمن العام منذ 25 ابريل 1952م بتنظيم المسألة بشكل أكثر مرونة. وصعد مطلب الغاء نظام الرق منذ الخمسينات الميلادية عند الحركات القومية والوطنية الشعبية الداخلية. وفي ميثاق جبهة التحرير الوطني العربية الصادر عام 1961م، نلاحظ حضوراً مركزياً لمسألة الغاء نظام الرقيق وتحرير الارقاء كأحد مطالب برنامج الاصلاح – كان ذلك ذروة حراك وطني سابق امتد لأكثر من عشر سنوات اجتر ذات المطلب. وفي السادس من نوفمبر 1962م اصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، برنامجه الاصلاحي المعروف ب (النقاط العشر).. الذي قضت نقطته العاشرة بالغاء الرق مطلقاً، وتحرير جميع الأرقاء وتعويض مُلاكهم. وصار الناس في ارتباك. فالقرار كان يكتنف طرق تطبيقه الكثير من الغموض – والنقاط العشر كانت مُغلفة بلغة عمومية غير حاسمة. وكتب صالح محمد جمال في جريدة الندوة المكيّة في السادس والعشرين من نوفمبر 1962م مُنتقداً: “كثير من الارقاء ينتظرون ان يُبادر مسترقوهم بتحريرهم واعلان ذلك لهم تنفيذا لقرار الحكومة الا ان احدا لم يحرك ساكنا، ويبدو انهم ينتظرون ان تاتي اليهم الحكومة لتدفع لهم التعويض سلفا ... ان تلك الفقرة الموجزة في البيان الوزاري عن الغاء الرق اصبحت في حاجة الى مذكرة ايضاحية مستعجلة يجري اعلانها للطريقة التي يجب ان يتم تنفيذ التحرير". [104] واستجاب مجلس الوزراء للتساؤلات التي انطوى عليها مقال جمال وغيره، وأصدر قراره رقم (4305) الصادر في التاسع من يناير من عام 1963م، مبيناً الطريقة التي سيتم بها التعويض، مفوضاً وزارة الداخلية الى اشعار المواطنين الذين كانوا يمتلكون رقيقاً بالتقدم بطلبات التعويض مصحوبة بالوثائق والصكوك الشرعية الى اللجان المختصة. واعتمد مجلس الوزراء السعودي مبلغ خمسة ملايين ريال سعودي، كدفعة أولى لتعويضات الرقيق. وشُكّلت لجان تعويض المّلاك الشهر التالي في 26 مدينة سعودية: من جدةومكة والقنفذة الى الدمام والحساء، ومن الجوف والقريّات الى بيشةوجيزان، مروراً بالرياض والحوطة وبريدة وشقراء! وكان الرقيق قبل البيان الايضاحي ينفرون اجتهاداً الى الديوان الملكي في الرياض يطلبون اوراق تحريرهم ومن ثم يعودون الى ملاّكهم يقدمونها لهم ويخيّرونهم بين اطلاق سراحهم لوجه الله وبين رغبتهم في طلب تعويض من الحكومة. وبادر الشيخ علي طايع – من أثرياء محلة شِعب عامر في مكة، وهو جد الشاعر محمد حسن فقي لأمه، فاعتق وحده مائة رقبة ما بين جارية وعبد. وقام سعادة الشيخ مساعد السديري بعتق جميع عبيده البالغ عددهم 17 شخصاً بين ذكر وانثى، وسجّل ذلك في محكمة تبوك. وحرر سمو وزير الداخلية فهد بن عبدالعزيز جميع الارقاء التابعين له وقدم لكل منهم صكاً بتحريره، واعلن ذلك في برقية عامة لتشجيع غيره [105]. كما قام سعادة اللواء علي جميل، وحرمه في مكة، بتحرير كافة الارقاء لديهم. انطوت الصفحة رغماً عن ممانعة أعداد من ملاّك العبيد في بعض القصور والمزارع والحقول والنجوع والبيوت.. ورغماً عن صرخات السُفهاء المضللين وقوارص المتحذلقين. وارسل كيندي رسائل تهنئة الى الامير فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، يشكره ضمنا على الغاء الرق، ويعلن عن عصر جديد في العلاقات الامريكية والسعودية. فرد عليه الأمير فيصل في الحادي عشر من يناير 1963م قائلاً: “ان القضايا الأصلية لشعوب هذه المنطقة: رفع مستوى السكان واستغلال كافة طاقاتهم وزيادة دخلهم القومي وتزويدهم بمؤسسات ديموقراطية للحكم يستطيعون في ظلها التعبير عن ذاتهم وأمانيهم وآمالهم في حرّية بناءة". منذ بيان كامل باشا الذي تلاه قائمقامه بالنيابة في سوق مكة عام 1855م، وقوبل بممانعة رهيبة، دارت الأرحاء لأكثر من قرن من الزمان، حتى استجابت الذهنيّة المحلية. هكذا تجلّت شمس الكرامة الانسانية فأنارت من دياجي الجزيرة العربية من جديد.. وكما قيل: ان للباطلِ جولة ثم يضّمحل. - الهوامش: قمت باخفاء الهوامش من التدوينة عمداً، على ان تظهر مع أصل الدراسة التي ستُنشر قريباً في اضمامة أبحاث مُتفرقة تتناول تواريخ مهمّشة في الحجاز الحديث. أنتهى مدونة الكاتب : http://mahsabbagh.net/2012/09/07/slavery-in-hejaz/