فرّامة الاستهلاك وتفريغ الجيوب لم تمنعني سعادتي بإيصال الانترنت إلى منزلي وتمتعي وأفراد أسرتي بهذه الخدمة والاتصال مع من أحب بمنتهى السهولة وبأسعار مغرية، من أن أطرح على نفسي سؤالا أصبح من كثرة ما طرح يشكل ظاهرة بين الأسئلة بحجم الظاهرة التي يسأل عنها وهي كيف سادت وما تزال تتمدد ثقافة الاستهلاك في مجتمعنا لدرجة أصبحنا نشكل معها ظاهرة اجتماعية؟. لو عدنا 50 عاما إلى الوراء، لوجدنا أن آباءنا وأجدادنا وأمهاتنا وجداتنا كانوا يعيشون بدون إنترنت، أو حتى اتصال هاتفي، بل أن الحياة كانت أسهل وأجمل وكانت الحياة الاجتماعية أقل تعقيدا بكثير من الآن. أرجو أن لا يفهم من كلامي أنني ضد الحضارة والتقنية، فأنا أمارسها وعلى نطاق واسع منذ أن وعيتها وأدركت أهميتها، لكن هذه العجلة من التكنولوجيا التي لا تتوقف اخترقتنا لدرجة لم نعد بدونها قادرين على التفكير، ولم نعد نستطيع أن نعمل بدون إشراكها في معاملاتنا اليومية، حتى أصبحنا نعتقد أنها هي الأساس وما نطرحه من فكر مجرد آلة. وثقافة الاستهلاك لا تقف عند حدود التقنية وإنما أصبحت تحيط فينا من كل اتجاه، فمن مراكز التسوق مرورا بالألبسة والجوالات ومكملات الزينة وصولا إلى الساعات والسيارات وجميعها يروج لها من خلال المرأة التي أصبحت جزءا استهلاكيا أساسيا من ثقافة الاستهلاك، إذ أن جميع الشركات المنتجة لبضاعتها (مهما كانت تلك البضاعة)، حين تروج وتعلن عن بضاعتها، لا بد أن تكون فيها المرأة حاضرة بفتنتها وزينتها وشبه عريها في ذلك المنتج، حتى ليبدو للمستهلك أن العرض للمرأة وليس للمنتج .... أين حقوق الإنسان من هذا وأين دعاة المجتمع الحر من كل هذه الإهانة التي توجه لنصف المجتمع. عودتنا ثقافة الاستهلاك على ترسيخ حب الإنفاق (مبررا كان أم غير مبرر)، وتؤكد الإحصائيات الرسمية التي صدرت عن دراسات ومراكز اجتماعية موثوقة أن 30 % من إنفاق الناس في منطقة الخليج العربي تنفق في غير مكانها وعلى أشياء غير مهمة، لدرجة أن إحدى الدراسات خلصت في إحدى نتائجها أن الإنفاق تحول إلى إدمان. والإدمان يبدأ عبر سلسلة من الأخطاء تبدأ من قدرة الشركات على فرض منتجها على مجتمعات تملك أموالا، وفي المقابل شعوب تلك الدول وتحديدا الخليجية منها غير محصنة بما يكفي لتجنب هيمنة تلك الشركات ومنتجاتها، والخطأ يبدأ من الأب والأم وتنتقل بالوراثة إلى الأبناء والبنات وتستمر عجلة الخضوع إلى الأحفاد والأجيال المقبلة, والنتيجة جميعنا في مأزق. عندما تؤكد دراسة أكاديمية أن الناس في السعودية ينفقون سنويا نحو 50 مليار ريال على الطعام وأن 25 مليار منها تذهب إلى مكبات القمامة، ونساء الخليج ينفقن سنويا على مستحضرات التجميل نحو ثمانية مليارات ريال، هذا يعني أن الشركات المنتجة تصطاد في الأمكنة الصحيحة ولا يمكن أن تتخلى عن هذه المنطقة بسهولة. وإذا افترضنا جدلا أن الشركات المنتجة ومن منطق تجاري بحت لن تتوانى عن ضخ منتجها إلى بلادنا وستعمل كل ما في وسعها وبكل الطرق الإعلانية والترويجية لفرضها علينا، فإنه يتوجب علينا نحن كدولة ومجتمع أن نتصدى جيدا لهذا الغزو البضائعي، وهذا لا يتأتى لنا إلا عبر التحصين، خصوصا وأن الاستهلاك يكون في الغالب لدينا على مواد كمالية وليست ضرورية. فمن أبرز مساوئ الطفرة النفطية أنها دفعت أبناء مجتمعاتنا للخروج من مرحلة الإنفاق الطبيعي إلى الدخول في نفق البذخ والإسراف وأصبحنا ننفق أموالا على أمور كمالية ودخلنا في تجربة التقليد والمحاكاة والتباهي، فأصبح المواطن يشتري لمجرد الشراء وليس لأنه يحتاج ويشتري لأنه يملك المال وليس لأنه مقتنع بجدوى ما يشتريه. قد تتحمل الدولة جزءا من المسؤولية في استسهال الناس للإنفاق، فقدر الإعلانات التي تغزو بها الشركات العالمية والمحلية عقولنا قبل جيوبنا، نلاحظ في المقابل افتقار الإعلانات التي تساعد الناس على الترشيد في الاستهلاك، حتى الإعلانات التي تدعو لاستهلاك المياه بشكل عقلاني تبدو غير مؤثرة قياسا بالأسلحة الدعائية التي تدعم موقف الشركات الداعية للشراء والإنفاق. ولا تقف المسؤولية عند حدود الدولة وإنما أيضا للأسرة دور كبير في هذا الأمر فالأب السعودي والأم السعودية باعتبارهما نواة المجتمع، انطلاقا من مفهوم الأسرة أن يبادرا أولا بترشيد الإنفاق بدءا بأنفسهما ومن ثم توريث هذه الثقافة إلى الأبناء وتعليمهم أن لا يشتروا أشياء لا حاجة لهم بها وأن يحاورون أبناءهم عندما يطلبون شراء أي شيئ والاتفاق على مدى ضرورته من عدمها. إذا لم نتبع جميعا (دولة وأفرادا)، لهذه السياسات التي تحصننا من الغرق في سياسة الإنفاق فإن ماكينة الشركات العالمية ماضية في تفريغ عقولنا وفرم جيوبنا عن آخر قرش أبيض نملكه. بسام أخضر