تعلمتُ من البحر عشق البحر أحد أهم هواياتي.. ومجالسته وحيداً بين العصر والغروب جزء من حياتي.. والحديث إليه إذا عز المستمع طريقة أفرغ بها طاقاتي.. واستلهام الغموض والعمق من مصاحبته درساً ذا أثر في علاقاتي.. والاستيعاب والاحتواء من مخالطته حكمة لا تبارح ذاتي.. إني أعشق البحر لما فات ولما هو آت. إن البحر آية كونية منظورة تستوجب النظر والتأمل وإعمال العقل فيما وراءها من أسرار، بحثاً عن سر علمي مطمور، أو تأكيداً على حقيقة إيمانية ثابتة، أو إثراءً لجانب الإحساس بالجمال ومن ثم التعبير عنه بصورة راقية...الخ، وكل ذلك لا يتأتى لإنسان إلا إذا عاش حالة اتساق واتفاق مع هذا المخلوق الرائع. وحيث أن اليقين قد استقر في قلوب المؤمنين بأن كل مفردات الكون سوى الثقلين قد جُبلت على تسبيح الله بطريقة خاصة تعجز عقول البشر عن فهمها، فإن البحر وهو مفردة في الكون - تسبح بحمد الله - تشعر بمن يشاطرها حالة التحميد والتكبير والتهليل، بل وتتعرف عليه، ثم تعيش معه حالة انسجام وتناغم، وعندئذٍ تفصح تلك المفردة عن بعض أو كل أسرارها لصديقها الإنسان حسب درجة التوافق والتعايش في رحاب حالة التسبيح هذه. ولعل ما يجلى تلك الحقيقة، ويميط اللثام عن جمالها وروعتها، هو بعض ما يلتقطه العقل القاصر من فهم حول قصة ذا النون وهو سيدنا يونس عليه السلام مع النون وهو الحوت العظيم الذي ابتلع نبي الله في أعماقه ثم هوى به إلى أعماق اليم الكبير، إذ يشق الطريق إلى قلوبنا وعقولنا من بين هذى الظلمات والمحن صوت التسبيح الصادر عن النبي الكريم يونس بن متى، ليكون ذاك التسبيح النبوي الجلي هو الأداة الإلهية التي مكنت نبي الله من التكيف مع بطن الحوت المجبولة ابتداءً على تسبيح الله، ومن ثم فقد أبت بأمر الله أن تُجرى على نبي الله ما تجريه على بقية أنواع الطعام، لأنه انسجم معها - رغم الظرف العصيب - فسبح الله مثلما فعلت، وذلك ما يُفهم من قوله تعالى: « فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * ». أعود من استطرادي السريع لالتقط طرف الموضوع الذي أتحدث فيه فأقول: في جلسات متفرقات علمني البحر ما لم أتعلمه من غيره، وهذه بعض دروسه:- (1) تعلمت من البحر أن أحفظ كل ثمين وغال في أعماقي وأن أطرد منها كل غثٍ ورخيص، فالبحر يحفظ بأقصى قاعة الدرر النفيسة، ويطرد إلى شاطئه كل الأشياء القبيحة، وصدق الإمام الشافعي عليه من الله الرضوان حيث قال: أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ **** وتستقر بأقصى قاعه الدرر. (2) تعلمت من البحر قيمة الكتمان، فهو الذي لا يفشى أسراره إلا لمن يصونها ويعرف قيمتها، ويبذل قصار الجهد في الوصول إليها. (3) تعلمت من البحر أن أتماسك، وأن ألمم شظايا نفسي المبعثرة إثر ضغوط حياتية أو منايا نفسية، فالبحر الذي يدع الحجر الصغير يمر إلى قاعه غير مكترث له، يحمل على متنه سفناً وبواخر تناظر الجبال حجماً ووزناً، ذلك أن جزيئات سطحه تتماسك معاً فتحمل في هدوء تلك المدن المتحركة والثابتة على سطحه. (4) تعلمت من البحر أن لا أنظر إلا ما فات، فكم تلك الموجات التي كسرها شاطئه، لكن الموج مستمر، والبحر لم يتخل عن سماته. (5) تعلمت من البحر قيمة التعايش ومعنى التأثير والتأثر بمجريات الحياة، لأقول لمن حولي أنا موجود، أؤثر وأتأثر، وأقول وأسمع. (6) تعلمت من البحر الهدوء الذي تصحبه الهيبة، فلا جرَّأ هدوء الموج وسكون السطح أحداً على الخوض فيه بلا اكتراث أو حساب، فالبحر مُهاب وإن تلاعب بعض الأطفال في بعض مائه. (7) تعلمت من البحر أن أقبل الآخر مهما كان لونه أو جنسه أو دينه، فالبحر يفتح صدره للجميع بلا تفريق ولا تمييز، ويمنح السعادة لكل من قصدها في رحابه. الآن استطيع أن أقول لك - عزيزي القارئ - لماذا أعشق البحر؟!!. عبد القادر مصطفى عبد القادر [email protected]