انقضى شهر رمضان المبارك وانقضت معه الليالي المباركات والنسمات الطاهرات التي طالما انتظرناها طويلا , ها هو يستعد للرحيل ويشد أمتعته حاملا معه الروحانيات الرائعة التي استمتعنا بها في أيامه ولياليه , يرحل كما هي سنة الله في الأرض فالكل راحل والكل إلى زوال و يبقى وجه الله الولي المتعال . وليس العبرة بالرحيل ولكن العبرة بما كسبنا وجنينا في هذا الشهر الفضيل , فكم من صلاة و كم تسليم , وكم من صيام وكم من قيام , وكم من تسبيح وكم من تمجيد , وكم من صدقة وكم من زكاة , وكم من فطور وكم من سحور , وكم من بر وكم من خير وهبناه لوجه لله عز وجل , فلا يقاس الشهر بلياليه بقدر ما يقاس بما حصدنا فيه . إن واقع الحال اليوم يشدو بحزن شديد على الليالي التي انقضت وما حصدنا فيها إلا القليل , لربما كان علينا بذل المزيد من المجهود حتى يرجع إلينا بالعائد الكثير . و لربما نحتاج إلى مزيد من التفقه في الأصول والسنة والدين , حتى نواصل ما بدأناه في ليالي انقضت و انكتب لنا فيها الأجر العظيم. ولعل رمضان من محطات المسلم التي تزيده من التقوى والعلم واليقين , وإن استثمار أوقاته في العمل الصالح يعود على صاحبه بالمنفعة والأجر في كل حين , فلا ينبغي أن تنقطع بانقطاعه الصالح من الأقوال والأفعال , أو تنقضي بانقضائه الفضائل و مكارم الأخلاق , فكما استوقفنا أنفسنا عن كل مكروه ومذموم يجدر بنا بغيةً في الخير و زيادة الرحمة أن نداوم على ذلك حتى تتم المغفرة الشاملة والرحمة الدائمة من الغفور الرحيم . ولما كان من حرص المصطفى عليه الصلاة والسلام على تزكية النفوس وتطهير القلوب , وشكر البارئ على التوفيق في الصيام والقيام ؛ وجه أمته إلى صيام الست من شوال , فهو دليل على صدق المسلم مع ربه , وتطهير لما حدث من خلل أو نقص أو سهو في الفرض , و تأكيد على التزامه بالمداومة على الطاعات بعد رمضان , حيث قال صلى الله عليه وسلم : (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) [ رواه مسلم وغيره ] . ويقول الإمام النووي - رحمه الله -: قال العلماء: (وإنما كان كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين). ونقل الحافظ ابن رجب عن ابن المبارك : ( قيل: صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل ، فيكون له أجر صيام الدهر فرضاً ) . هذا وإن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب ، وأن الصائمين في رمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر ، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة ، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب ، وقد كان نبينا الكريم يقوم حتى تتورّم قدماه ، فيقال له: أتفعل هذا وقد غُفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول : (أفلا أكون عبداً شكورا). وقفة لنرتقي : أيها القارئ الكريم إن كنت قد بدأت في خير فلا تقطعه بانقطاع الشهر , فالخير يسري و يثمر و يبقى ثوابه مدى الدهر , و إن كنت أمسكت عن شيء بغية في التوبة و الأجر ؛ فلا تنقض عهدك و استمر لعل الله يحدث لك به النصر والفتح في كل شهر .