عشنا في الحلقة السابقة مع النبي - صلى الله عليه وسلم – في حجته ومع أصحابه، وقد أحرم وأحرموا معه في ذي الحليفة، وصلى بهم العصر قصرا، وانطلقوا ذاكرين مهللين رافعين أصواتهم بالتلبية، ويتردد صدى تلبياتهم وأصواتهم في جنبات الجبال والوديان التي مروا بها، وانطلقوا لأداء هذا النسك يقودهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعلمهم المناسك. لقد تجردت هذه الأجساد والأرواح الطاهرة من كل محيط يحيط بها، ومن كل مخيط امتثالا لأمره سبحانه وتعالى، وهم يلبون نداء الله ويجيبون داعيه: إجابة بعد إجابة، لبيك اللهم لبيك، وهكذا ينعكس بياض «ثيابهم من أجسادهم إلى قلوبهم، كأنما ولدوا لتوهم، لم يدنسهم إثم، ولم يلوثهم ذنب، لأن الله عز وجل – قد وعدهم أن كل ذنب اقترفوه، وكل جرم اجترحوه فسوف يغفره الله بفضله وكرمه، وهم يأملون أن يمحو الله عنهم السيئات منذ عقدوا النية على الحج، وعندما اغتسلوا استعدادا لتلبية نداء الخليل عليه السلام، الذي تلقى الأمر في ذلك من الله - عز وجل « فإن الخليل لا يستطيع أن يسمع كل هذه الحشود في عالم الحس، فضلا عن أن يسمعها في عالم الذر، ولكن الله تعالى قد أسمعهم وهم في عالم الذر فقالوا لبيك اللهم لبيك... ولاشك أن كل ذنوبهم تتساقط بعد إتمام حجهم على الوجه المشروع كما أخبرهم بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم – وهم يؤملون أن يفوزوا بالرضا والقبول « والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة « كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». ثم ترتفع أصواتهم بالتلبية، وتمتلئ أرواحهم بالشهود، وتنعم قلوبهم العامرة بذكر الله، وبلذة الأنس به، والاجتماع عليه، وتتسمع الملائكة من آفاق الملأ الأعلى إلى هذا النغم المقدس، ويحاول كل منهم أن يكون سابقا أخاه في طاعته، واضعا نصب عينيه قول الله – عز وجل «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه..» يرفعه الله نفسه دون حاجة إلى من يرفعه إليه، وإنما يسجله الكرام الكاتبون ليزهو به أصحابه يوم القيامة، ويقول كل منهم «هاؤم اقرأوا كتابيه» وسار الموكب والتلبية يتردد صداها في الآفاق، وعبير يضمخ الأجواء، وأنوار تشع من القلوب، وتعود إلى القلوب « لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». فمروا في طريقهم بالأبواء، وهو المكان الذي وافت المنية والدة سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وهى عائدة به إلى مكةالمكرمة، بعد زيارته لأخواله بني النجار، وكان والده – صلى الله عليه وسلم – قد توفى قبلها وهو في بطن أمه، لتنفرد العناية الإلهية بتربيته – صلى الله عليه وسلم – في كفالة جده عبد المطلب. ثم عمه أبي طالب من بعده، قال – صلى الله عليه وسلم «أدبني ربي فأحسن تأديبي» ثم ما لبث الموكب المبارك أن مر بوادي عسفان، ولم يكن سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أول نبي يمر بهذا الوادي، فقد تشرفت جنباته بأنفاس سيدنا هود، وسيدنا صالح - عليهما السلام - في طريقهما إلى البيت العتيق محرمين متقربين إلى الله بالحج إلى أول بيت وضع للناس منذ آدم عليه السلام. وفيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا «.. إبراهيم الذي جعله الله للناس إماما، وهو الذي أعاد بناءه على القواعد التي كان عليها « وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ » إبراهيم الذي ما أمره الله بشئ إلا وفَّى به، حتى إنه لم يتردد لحظة واحدة في امتثال أمر ربه بذبح فلذة كبده وقرة عينه إسماعيل – عليه السلام – فكان المثل الأعلى في البر والتقوى، ومثال الطهر، وقد رزقه الله إياه في كبره وهرمه وشيبته، فلما رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء حق، لبى أمره، فلما أراد ذبحه وتله للجبين، ومرر السكين على قلبه وكبده هو قبل أن يمررها على رقبة ولده، فناداه أرحم الراحمين. « أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم » .. سلام على إبراهيم.. ألا إنه أعظم ابتلاء ابتلي به بشر، ولكن إبراهيم انتصر على نفسه، وأعانه ولده على ذلك فكانا المثل الأعلى في التضحية والفداء، وامتثلا أمر ربهما راضيين، فجاءهما الفرج من الله، والحمد لله رب العالمين .