في كل فترة زمنية من تاريخنا الإسلامي المجيد تُشرق نماذج من عباد الله الصالحين .. تضيء السُّبل بنور الحق .. وتدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة . فتجد القبول من العباد لما تُمثِّله من قدوة صالحة ، ومكانة سامية في العلم ، وثبات على المبادئ والقيم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية السمحة. - والمتأمل في سير الصالحين من أمة حبيبنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، يجدها حافلة بالأعمال الجليلة والمواقف الباهرة التي تبرز همم أصحابها العالية ، وزهدهم في متاع الدنيا ، وثباتهم على المنهج الرباني الذي كساهم مهابة وإجلالاً وأمناً ، وجعلهم رحمة للأمة. - ولقد تعَّودت - بين اونة وأخرى - أن أقدم للقارئ الكريم أحد تلك النماذج الخالدة في القلوب والاذهان ، ليتعرف على جوانب من حياتهم الزاخرة بمكارم الأخلاق وجلائل الأعمال ، ويسأل الله معي أن يجزيهم خير الجزاء على كل ما قدموه للإسلام والمسلمين من أعمال عظيمة تنشد الخير والفلاح للبلاد والعباد. | (عطاء بن أبي رباح) من التابعين الأوائل ، عاش ثمانية وثمانين عاماً ، وتوفى في السنة الرابعة عشرة بعد المائة من الهجرة. يقول عنه عبدالمنعم قنديل مؤلف كتاب (حياة الصالحين): (اتجه عطاء في طفولته إلى تحصيل العلم .. وكان يعاني صعوبة كبيرة في الذهاب إلى مجالس العلماء ، لأنه مصاب بشلل الأطفال .. كما أنه فقد إحدى عينيه في الصغر .. ومع ذلك لم يقعده الشلل ، ولا الابصار بعين واحدة عن التعلم والدراسة .. وقد بنى نفسه كعالم وفقيه وإمام ، يسعى إليه الخلفاء والولاة ، ويتهافتون على لقائه وشهود مجلسه ، وهكذا أنزله (العلم) منزلة كريمة في نفوس الناس حتى أن حلقة الفتيا التي كان يعقدها عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في المسجد لم يخلفه فيها إلاَّ عطاء بن أبي رباح .. وكان الناس إذا ذهبوا لابن عباس يستفتونه يقول لهم: أتستفتوني يا أهل مكة وفيكم أبن أبي رباح؟). - كان عطاء بن أبي رباح يرى في (وحدة المسلمين) عزتهم وسؤددهم وقوتهم .. وأن ليس من حق إنسان أن يكفر عاصياً ، لأن العصيان ليس كفراً .. وقد يتوب الله على العاصي .. فيرجع إلى حظيرة الطاعة بقلب أواب منيب .. وينعم بحلاوة المغفرة ، ولذة الرحمة. | ومن الآداب الإسلامية التي كان يتحلى بها عطاء بن أبي رباح: حُسن الاستماع إلى من يتحدث إليه .. إذ كان يلتزم الصمت أمام محدثه ، وكأنه يسمع ما يقوله لأول مرة .. وفي ذلك يقول: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته .. وقد سمعته قبل أن يُولد ، فأريه أني لا أحسن منه شيئاً. | قال يوماً في حلقة العلم بالمسجد الحرام: من جلس مجلس ذكر كفَّر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس في مجالس الباطل .. فسأله أحد الحاضرين: ماذا تعني بمجالس الذكر؟ فقال: المجلس الذي تعرف فيه الحلال من الحرام: كيف تُصلِّي وكيف تصور. وكيف تتزوج وتطلق. وكيف تبيع وتشتري. (فعطاء كان يرى أن تعلّم العلم أفضل عبادة يتقرب بها العبد لربه .. لأن من يعبد الله على علم يسير في طريق الانبياء .. وينال أرفع الدرجات عند الله .. أما الجهل فانه قد ينحرف بصاحبه عن الطريق القويم والصراط المستقيم). | ورُؤي عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده:(احفظوا عني خمساً .. القدر خيره وشره ، حلوه ومره من الله عز وجل ، وليس للعباد فيه سبب ولا تفويض. وأهل قبلتنا مؤمنون ، حرام دماؤهم وأموالهم إلاَّ بحقها. وقتال الفئة الباغية .. والشهادة على الخوارج بالضلالة). - وهكذا .. بالعلم والايمان وبما أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالعمل الصالح ونشر الفضيلة أصبح عطاء بن أبي رباح نجماً ساطعاً ينتشر نوره في كل زمان ومكان .. رحمه الله ورضي عنه وأسكنه فسيح جناته.