وقفت على عدة فتاوى وقرارات حول توسعة المسعى، وحكم السعي في الجزء المزيد منه، وحكم من سعى فيه ولم يتمكن من السعي في المسعى القديم لإغلاقه حالاً، ولما كان في بعض هذه الفتاوى والقرارات ما يستدعي مناقشته والوقوف معه. أولاً: جاء الأمر بالسعي في الحج والعمرة ولم يبين القرآن الكريم ولا السنة النبوية الشريفة مقدار هذا المشعر الذي تم فيه السعي طولاً ولا عرضاً سوى كون الجبلين (الصفا والمروة) كمّ. وتحديد السعي طولاً بأنه ما بين الجبلين بحيث يلزم الساعي إلصاق عقبه بأصلهما على الأقل تحديد فقهي محترم لكنه لم يرد في النصوص القطعية مثل هذا التحديد. وتحديد عرض المسعى بأذرع معينة إنما هو تحديد لواقع معين يخبر عنه الذارع، مع أن خبره تقريب وليس تحديداً، ولذا قال الشرواني في حواشيه على تحفة المحتاج (4/98): (الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على التقريب إذ لا نص فيه يحفظ من السنة فلا يضر الإلتواء اليسير لذلك). وقال الرملي في نهاية المحتاج (3/283): (ولم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر كما نص عليه الشافعي). ولذا زاد بعضهم في عرض المسعى فقدره بستة وثلاثين ذراعاً ونصف. كما في تاريخ عمارة المسجد الحرام 299 مثلاً مع أن هذا التحديد هو لبطن الوادي بين جبلي الصفا والمروة الذي حصل عليه اعتداء وبنيت داخله مبان كما قررته اللجنة (أنظر فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (5/143). ثانياً: بناء المسعى وتحديده بمبان حادث وليس قديماً ولم يكن المسعى في السابق مبنياً وقد سبق أن اعتدي على أجزاء منه ثم أزيلت كما سبق أن وسع وزيد في عرضه وأدخل بعضه داخل المسجد الحرام ففي صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: السعي من دار ابن عباد إلى زقاق بني أبي حسين وفي حواشي على البحر الدائق (2/359). قال: ههنا إشكال عظيم ما رأيت أحداً تعرض له وهو أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية في ذلك المكان المخصوص وعلى ماذكر الثقات أدخل ذلك المسعى في الحرم الشريف وحول ذلك المسعى إلى دار ابن عباد والمكان الذي يسعى فيه الآن لا يتحقق أنه من عرض المسعى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصح السعي فيه وقد حول عن محله. ولعل الجواب أن المسعى كان عريضاً وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام وترك البعض ولم يحول تحويلاً كلياً وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين) انتهى. ويشهد لذلك أن الرحالة الذين زاروا مكة قديماً حددوا المسعى بأن عرضه تارة عشرة أمتار وتارة أثنا عشر متراً مثل محمد صادق باشا في الرحلات الحجازية والذي زار مكة عدة مرات بين عامي 1277ه و1303ه انظر الرحلات الحجازية ص 102، 103 والمسعى القديم أنشأ بين عامي 1392ه و1396ه بعرض عشرين متراً وطول ثلاثمائة وأربعة وتسعين متراً. بل اللجنة التي حددته عام 1375ه جعلت عرض المسعى 16م مع صدور فتواها بجواز توسعته لعشرين متراً. ثالثاً: لم يكن المسعى مستقيماً بل كان منحنياً متقوساً كما يعرف ذلك من رسومات وصور المسعى القديمة ومنها الرسوم التي في الرحلات الحجازية والتي تظهر الميلان الواضح. والمسعى القديم مستقيم غير منحن وهذا يدل على إدخال بعض الأجزاء التي كانت خارجة إليه أو إخراج بعض ما كان فيه خارجاً عنه. رابعاً: اللجنة التي شكلت في عام 1374ه والتي قامت ببيان موضع السعي وبيان جواز السعي في دار آل الشيبي ودار الأغوات اللتين هدمتا وأدخلتا في المسعى استندت في رأيها بإدخال دار الشيبي أنها (مسامته بطن الوادي) وأفادت في ختام رأيها أنه (احتياط وتقريب). فهذه اللجنة إنما أرادت النظر في إدخال دارين أزيلتا لتكونا ضمن المسعى وليس مرادها تحديد حدود الصفا والمروة تماماً وتحديد ما يدخل في مسامتهما. ثم إنها إنما تستند على الواقع المعروف حينها ولا تزيد عليه ولا تريدتحديد كل الحد الشرعي للسعي يدل لذلك أن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله أخبر عن أن الشيخ محمد بن إبراهيم اجتمع بالمشايخ لبحث هذه المسألة. وأن من الحاضرين من قال إن المسعى لا يحد عرضه بأذرع معينة بل كل ما كان بين الصفا والمروة فإنه داخل المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة وكما هو ظاهر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم ومنهم من قال يقتصر فيه على الموجود ولا يزاد فيه إلا زيادة يسيرة في عرضه وهو قول أكثر الحاضرين قال الشيخ: ويظهر من حال الشيخ محمد بن إبراهيم أن يعمل على قول هؤلاء لأنه لا يحب التشويش واعتراض أحد. الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ص 285. فالتحديد الذي علىوفقه تمت العمارة القديمة هو الاقتصار على المسعى الموجود آنذاك مع زيادة يسيرة دون استيفاء المكان الشرعي للسعي كله والمحصور بين الصفا والمروة مع أن قرار اللجنة على فرض أنها أرادت تحديد كل الحد الشرعي لا يعدو كونه رأياً قد يخالفهم فيه غيرهم كما هو الحال في آراء اللجان التي اختلفت في تحديد حدود المشاعر، وحدود الحرم في مكة والمدينة ولا يزال الخلاف في كل ذلك مستمراً حتى الآن كما هو معلوم. خامساً: شهد عدد من الشهود كبار السن في المحكمة العامة بمكة على امتداد جبلي الصفا والمروة بأن المسعى أوسع مما هو عليه الآن وهم من أهالي مكة وممن كانوا يقيمون حول المسعى في مناطق القشاشية وغيرها وصدرت فتوى الشيخ الدكتور عبدالله بن جبرين المتضمنة مشاهدته الشخصية عام 1369ه بامتداد الجبل لأكثر من حد المسعى القديم. سادساً: إذا نظرنا للأمر الشرعي بالسعي نجده أمراً لم يحدد موضع السعي طولاً ولا عرضاً إلا بالفعل النبوي (المجرد والذي لا عموم له كما هو معلوم عند علماء الأصول). ونجد القرآن الكريم في هذا الشأن يقول (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم). [البقرة:185]. فالآية الكريمة ذكرت الطواف بهما والطواف بالشيء هو المشي حوله أو الدوران حوله كما في تاج العروس (6/184) أو هو مطلق المشي. ويشهد لذلك قوله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) فقال في الموضعين يطوف بهما والحال أن الطواف بالبيت مشى حوله باتفاق. ولذا قال أبو حيان في تفسيره (2/99) (وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما لم يعد طائفاً).ولذا لما قرر الشافعي وغيره أن من انحرف يسيراً عن موضع السعي أجزأه كان نظره والله أعلم. إلى عدم التحديد الشرعي له فلم يكن مع ذلك له أن يفسد سعيه مع أن اتصال الشيء بالشيء يعطيه حكمه في الشريعة كما في اتصال الصفوف في الجماعة خارج المسجد وكما قرره الفقهاء عند الازدحام والطواف تحت السقائف. ولذا فإن من قواعد الفقه أن ما قارب الشيء أعطي حكمه وأن الزيادة تأخذ حكم المزيد عليه. سابعاً: ومع أن الظاهر لدي هو صحة الفتوى القائلة بأن المسعى القديم ليس كل المسعى الشرعي الواقع بين الصفا والمروة بل هو بعضه وأن الزيادة في المسعى ولو زادت على ما بين الصفا والمروة جائزة ما دام قريباً عرفاً بالمسعى ومتصلاً به فإن هذه المسألة ليست قطعية بل هي من مسائل الخلاف الظنية التي يسوغ فيها الخلاف ويحتمل الاجتهاد ولا يجوز الإنكار وأهل العلم يختلفون في مثلها وفي أكبر منها ولمن اعتبر هذا القول مرجوحاً أن يتأمل في المصالح التي تترتب عليه فإن المسعى القديم مقفل الآن ولا يتمكن أحد من السعي فيه فالفتوى بعدم صحة السعي فيه تمنع من العمرة أو نعتبر المحرم محصراً والأخذ بالقول المرجوح على فرض ذلك فيه مصلحة ظاهرة. ونعلم أن الأخذ بالمرجوح للمصلحة جائز يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في عرضه لبعض آراء شيخ الإسلام ابن تيمية (وهذا من الشيخ رحمه الله بناء على قاعدة ذكرها في بعض كتبه وهو أنه إذا ثبتت الضرورة جاز العمل بالقول المرجوح نظراً للمصلحة) (11/272) ولما سئل عن ذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله قال: (المسائل الاجتهادية مبنية على الاجتهاد، وإذا كان الاجتهاد في الحكم فكذلك في محله فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عمل بمقتضاها) كتاب العلم ص 226 وذكر ذلك النووي في مقدمة المجموع (1/88) وابن الصلاح في أدب المفتي والمستفتى (1/46). وتناولته في بحث بعنوان التيسير في الفتوى نشر قديماً.