من المحال أن ترتقي أمة بدون وجود قانون ينظم أمور شعوبها ويرتب حياتهم , ويفرض العقوبات المناسبة في حق المفسدين في المجتمع , وهذه الأمور مُسَلّمٌ بها من جميع شراع وفقهاء القانون وعملت بها أوروبا في القرون الوسطى , وكانت من الأسباب الرئيسية بعد إرادة الله سبحانه وتعالى في الرقي والتطور والازدهار الذي تعيشه أوروبا في الوقت الحاضر , ولكن استوقفتني كثيراً مقولة سمعتها من أحد فقهاء القانون عندما سئل عن مدى مرونة القوانين الوضعية حيث قال: (إن القانون وضع في المجتمعات لكي يطبق , ولكي يخالف) فهذا الرجل ذكر معيارين متناقضين تماماً وقام خلالهما بتقسيم مرونة القانون الوضعي , والمغزى من كلامه هذا هو أن القانون الوضعي اشتمل في مواده على الكثير من القواعد التي تنظم علاقات الأفراد في مجال معين , وعلى الرغم من محاولات جميع شراع القانون في الإلمام بجميع الجوانب التي قد تتعدى ذلك القانون إلا أن جميع تلك المحاولات تنتهي بالفشل بسبب أن أي قانون وضعي ومهما كنت شموليته فإنه لابد أن يترك من الثغرات ما يكفي لجعل الشخص سيئ النية يهرب من تطبيق القانون عليه , وبالتالي فإن ذات القانون الذي شرع من قبل فقهاء القانون واشتمل على بنود صريحة لتنظيم العلاقة بين أفراده قد تواجدت بين طياته بنود ضمنية تمكن الشخص سيئ النية من الهروب من تطبيق القانون عليه وهي ما تسمى بالثغرات , والثغرات القانونية تفقد القانون المرونة التي يجب أن يمتاز بها , ومهما حاول شراع القانون في طمس تلك الثغرات فإن محاولاتهم سوف تؤول إلى الفشل لأن الثغرات القانونية تنشأ غالباً مع مرور الزمن وسرعة ترك عجلة التطور والتقدم , وهذا ما يجعل القانون الوضعي يفتقد للشمولية والمرونة التي لابد أن يكون عليها. ولكن ... شريعتنا الإسلامية في الجهة المقابلة والتي وضعت أركان الفقه فيها منذ ألف وأربعمائة سنة وما زالت وستبقى تتمتع بالكثير من المرونة رغم أن قواعدها الأساسية وضعت قبل مدة كبيرة من عصر النهضة الأوروبية , وفقهاء الشريعة الإسلامية تبحروا في الفقه وخاضوا في الكثير من المسائل في العصور الوسطى وهو ذلك الزمن الذي كانت أوروبا تعيش في عهدها المظلم وكان الجهل يسود بين مجتمعاتها , ويكفي أن نابليون بونا بارت استعان بالفقه الإسلامي المذهب المالكي بشكل شبه كلي حتى يضع أولى اللبنات للقانون في أوروبا والذي تسلقت به فرنسا إلى سلم المجد حتى أصبحت الدولة الأولى في العلم على الصعيد القانوني , وكل ما أتمناه هو أن أرى بعضاً من الانصاف من المتشدقين الذين يطالبون بالتقليد الأعمى لأوروبا , وكما أتمنى أيضاً أن يوسعوا مداركهم وأن يعلموا بأن أوروبا لم تصل إلى ما هي عليه إلا عندما وضعت من شريعتنا الإسلامية منهجاً يحتذى به , فشعوب أوروبا الآن أصبحت ذات هوية إسلامية على الرغم من أنهم ليسوا مسلمين , بينما بعض المسلمين اسماً وهويتهم لا تمت للإسلام بشئ .