من الملفت أن الكثير من مؤرخي العالم العربي يحصرون ثقافتهم في جانب من الجوانب الضيقة وتكاد بحوثهم أن تنتظم في طريق مكشوف لا يحكمه منطق التراكم ولا يستند الى الامتداد المنتظم مع ركائز التاريخ الكبير، بهذا فقد الإنسان العربي ما يسمى بالذات أو ما يسمى بالصيرورة المتصلة وعلاقتها بالعالم الآخر، واذا استثنينا واحدا أو اثنين من هؤلاء المؤرخين الذين تخطوا مسألة اعمار المراحل والأزمنة المحددة أو ما نتواضع عليه بدهياً بتحول المخلوقات وجدنا أن الغالبية غير مؤهلة وغير موهوبة وان ما يعيدون ويبدون فيه مجرد اضبورة واحدة، هذه الأضبورة التي لن توقف التاريخ ولن تكمله حتى لو ادعينا أن هناك ما يشبه الحصر والمتابعة من بداية عصر النهضة أو من القرن ما قبل الفائت وانها قد تكون رجوعاً لما قد يطرأ أو تكملة لما يستجد فإن المسألة مسألة (معرفة وهوية وامتلاك) والحالة هذه تتطلب وعياً شمولياً بالمضامين والمدلولات التي سادت في الشرق العربي منذ كان مهدا حضارياً وحيدا.. ولا يمنع في هذا الجانب من الوقوف على الافتراضات ومحاورتها ففي الحياة كما يقول المؤرخ الفرنسي (لوروا لادوري) ما هو أكثر طولا وابعد غورا.. هذا اذا لم تتوفر المصادر المقروءة والعينات المكتشفة، أو ما عثر عليه في النقوش والحفريات المتأخرة.. أقول اذا لم توفر المادة التي تأخذنا الى سر الأصل أو على الأقل الى أشكاله الخارجية التي تمكن الباحث التاريخي من الهيمنة على ممارسة الخطاب الفاعل، فشواهد الحضارة المصرية مثلا صارت نهبا في فترة من الفترات وذهب مآلها الى اقصى نقطة في الدنيا فالمسلات وما تمثله قابعة في ميادين الآخر وحجر رشيد وغير رشيد من حضارة جنوب الجزيرة العربية ووادي الرافدين وما تركه الفينيقيون من هموم الطبيعة والإنسان تقبع كذلك بكل حياء في متاحف الغرب بعيداً عن هويتها وترابها كنخلات الرصافة، ولئن كان وجودها بهذه الصفة قد وفر لها المعرفة ونوه ببعد وعمق حضارة الشرق فإن هذا لا يبرر القبول بالظاهر من المعنى لدينا بل المفترض ان يكون البحث في خصوصيتها وفي مقامها الحقيقي لا المجازي، وبالبحث والتحري يصل المؤرخ الى الوظيفة النوعية لتلك الأشياء!!. فالحصيلة الضخمة من التاريخ الذي كتبه الآباء وهي ثروة لا يعادلها ثروة قد سلطت الضوء وبينت أطر المشروع ووضعت خطوطا متداخله تربط الرواية بالحدث والوصف بالأثر وشخصت بعضاً من العمالقة ومن اعتلى على أكتافهم ليشاهد ما فعلوه لكنها كانت الى العموم أقرب. وكان نشاطهم خاصا بالتقييد وحرمان الذات المؤرخة من الغريزة والهوى لكنها تركت الباب مفتوحاً لمن اراد ان ينقب ويستقصي كما فعل اليعقوبي والمقدسي وابن خلدون ومع ذلك كانت الرغبة في الحقيقة واضحة حسب ما وصل اليهم، أما وقد ثبت بلاشك أن هناك مؤرخين ورواة كانوا يعتنون بالترجمة في عصر التدوين من الظاهر كما فعل وهب بن منبه في ترجمته من المسند الحميري الى العربية الحالية وغيره ممن لم تصلنا أسماؤهم، والشاهد من كل ذلك هو الاثراء والتوسع ليشعر الانسان العربي بمظاهر الاستمرار والقبول بالزيادة.. والمؤهل أولا وثانياً وثالثاً هو عالم الآثار ثم تأتي لازمة المؤرخ الحر أقول الحر بعد أن يجد الخيط ويؤذن له بالتحول.