من مظاهر التيسير التدرج في الأخذ بأحكام الشريعة الاسلامية ، لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله أفترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلية ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. ويقرر شيخ الاسلام ابن تيمة هذا الأمر فيقول: (العالم قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن ، كما أخر الله تعالى إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيانها .. ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ، كما أن الداخل في الاسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها ، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أو يؤمر بجميع الدين ، ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك ، وإذا لم يُطقه لم يكن واجباً عليه في هذا الحال ، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الامكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب اقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات ، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.إن مظاهر التيسير في الشريعة الاسلامية كثيرة من تأملها وعرف صورها توصل بكل يقين إلى معرفة نعمة الله وفضله على هذه الأمة بما شرع من شريعة سمحة كلها يسر ، وإذا كانت الشريعة كلها يسر وسماحة فلا مبرر لتغيير أحكامها ، أو تأويل نصوصها ، أو عدم احترام مقاصدها رغبة في التيسير لأنها يُسر بوضعها الرباني أصلاً.ولكن ليس يُسر الشريعة الذي نتناوله هو موافقة الأهواء والشهوات بل يسرها أنها تجري وفق طاقة الانسان ، ووفق مصلحته ، والحقيقة أن الضغوط الاجتماعية وبعض الموجات الفكرية أو الأطروحات الثقافية قد تجعل التمسك بالشريعة الاسلامية يشكل صعوبة لدى كثير من الناس تحملهم على مجاراة الواقع بالتفلت من عزائم الأحكام الشرعية ، وتأويل النصوص المحكمة وهذا من ضعف الإيمان لأن الشريعة الاسلامية تضمنت حل مشكلات الانسانية وعلمت ضوابط التجاوب مع كل الضغوط والتأثيرات التي قد يتعرض لها بما لا يخرج عن قدرته ولا يتعارض مع مصلحته وكلما تمسك الإنسان بنصوص الشرع والتزم حكم الله تعالى كان ما يحصل عليه من التيسير أبلغ وأظهر مع ما في ذلك من قوة ايمان وسكينة نفس، ولا شك أنه قد تعرض في أحكام الشريعة أمور شاقة أو شديدة لاتخرج عن قدرة الانسان واعتياده وهذا مما لابد منه في حياة الانسان ولو نظر الانسان في تطلبه لمعاشه وسعيه لمصالحه لوجد أنه قد تعرض له أنواع من المشقة لابد منها فمثل هذه المشقة ملازمة للحياة ولابد منها، وهي لا تسمى مشقة بل المنقطع عن مثلها يجزم كل عاقل أنه كسلان مذموم، والمقصود أن الشريعة جارية في تكاليفها على مقتضى الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، فهي تكاليف تجرى على موازنة تقتضي أن يكون المكلفون في غاية الاعتدال، وما ظهر فيه من ترخيص أو تشديد فهو لرد المنحرف عن الوسط لأحد الطرفين يحملهم على ما يحصل به صلاحهم ، فالتشديد والتخويف والترهيب يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين ، والترغيب والترخيص يؤتى به في مقابلة من غلب عليه التشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط والاعتدال واضحاً، وبهذا تظهر عظمة هذا التشريع وما اختص به من تلبية لمطالب الفطرة ، وما فيه من اصلاح للإنسان ومراعاة له ، فهو المنهج الرباني الذي لا صلاح للبشرية ، ولاخلاص لها إلا به. والله الموفق.