إن المملكة العربية السعودية تضطلع بموقف مهم وكبير على جميع المستويات الاسلامية والدولية والعربية والاقليمية ..الخ. وإن ما حدث ومر به العالم خلال العقدين الماضيين أفرز تغيرا واضحاً في كثير من المفاهيم والمواقف وبات على المسلمين ضرورة ترتيب أنفسهم ووعي هذا الأمر حفاظاً على سلامة دينهم من اساءات بعض المنتسبين إليه من أصحاب الفكر الضال والأفعال المشينة. فلقد أخذ على عاتقه هذا الملك الصالح خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أن يضطلع بهذا الدور العالمي المهم في هذا الوقت المهم وما يقوم به من تقريب وجهات النظر بين المختلفين في غير مرة وجمعهم على ثرى هذا البلد المبارك وفي أطهر بقاع الدنيا انما هو دليل واضح وبرهان ساطع لما أسلفت إلى غير ذلك أيضاً من مباحثات ومشاورات من شأنها صالح الأمة العربية المسلمة بل إلى أبعد من ذلك (العالم كله). وإن مؤتمر الحوار الذي كان في مكةالمكرمة منذ أيام قليلة سابقة هو غرس مبارك بيد مباركة في أرض مباركة سيكون ثمره قطوفاً دانية، ولعل مؤتمر الحوار القادم هذا سيكون فيه ومنه الخير الكثير والفائدة العميمة، فقد كان يحلم العالم بالأمس بمؤتمر مثل هذا، واليوم أصبحت ولله الحمد حقيقة وعلينا حينئذ التقارب العلمي والتأصيل الفقهي وليس من العيب أن يكون بين أفكارنا ما يحتاج إلى مراجعة أو تصحيح. نعم أيها الاخوة: إن الحوار يأتي دائما بعد وقت طويل من الركود والتفشي مع الاصرار في المفاهيم والأفكار، وبه تعلو مفاهيم صحيحة أو مصححة وأفكار جديدة من شأنها أن تترك تراكماً نفسياً وفكرياً وعملياً وإيجابياً ينعكس عن آليات الحوار. - وإننا لنستعجل ثمار هذا الغرس المبارك- إن الحوار فكرة وعقيدة ونظام ومنهاج لا يحدده موضع ولا يقيده جنس ولا يقف دونه حاجز جغرافي ولا ينتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الكريم- جزى الله خادم الحرمين الشريفين أن أحيا هذه السنة المباركة. إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادىء تحتاج من الأمة التي تحاول ذلك (على الأقل) إلى فهم صحيح لأحوال الواقع وملكة نفسية راقية في الحوار وارادة قوية ووقار ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع وبخل ومعرفة حقة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره وأن الاختلاف لا يوجب العداء وأيضاً لا يصل بنا إلى أن نختلف على ما نحن متفقون عليه ومن أجله. على هذه الأركان وبعد توفيق الله عز وجل وبهذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادىء الصافية وتتربى الأمم الناهضة وتتكون به الأمة وتتجدد معه الحياة، وأن كل أمة أو كل أحد فقد هذه المقومات وهذه الصفات فهي أمة مسكينة وضعيفة ونحن نتفق جميعاً أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ورضي لهم الاسلام ديناً ووضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها واسعادها مصداقاً لقوله تعالى : (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث...). نعم أيها القارىء الكريم: لقد نادى الاسلام ابناءه ومتبعيه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته اخوانا). لقد فهم المسلمون الأولون - رضوان ورحمة الله عليهم اجمعين - من الإسلام المعنى الأخوي وأملت عليهم عقيدتهم في دين الله أخلد عواطف الحب والتآلف وأنبل مظاهر الأخوة والتعارف فكانوا رجلاً واحداً وقلبا واحداً وفكراً واحداً ويداً واحدة حتى امتن الله جل وعلا بذلك عليهم في كتابه الكريم بقوله : (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم). إننا إذا سلكنا بالأمة مسلك الحوار والمشاورة - داخليا وخارجيا- وتقريب المفاهيم وتعميق وتأصيل مفهوم فقه الواقع، استطعنا حينئذ أن نحصل على فوائد جمة وعميمة وعظيمة سيشهد التاريخ بصلاحيتها وتصبح هذه الأمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الانسانية جميعاً ففيه تقوية للوحدة الاسلامية العالمية فيمدنا العالم كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل وأجزم بأننا سنجنب أنفسنا (بالحوار والمشاورة) وبشكل كبير وملموس المشكلات الحيوية التي نعاني منها ووقعنا فيها وسنحل بإذن الله ما عجزنا عن حله من ذي قبل في أقرب وقت وبأقل جهد. إن هناك مفهوماً سائداً خاطئاً عند البعض يتضمن (أن التعامل والاستفادة ..الخ من الفئات غير المسلمة ينافي التمسك بالاسلام). ولهم ولمثلهم من الجهلة قصيري النظر سطحيي الفكر أن فهمكم خاطىء قاصر فإن الاسلام الذي ارتضاه رب العالمين دينا لنا يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها، فلم يترك الأمر للاجتهاد، فلقد اشتمل هذا الدستور الرباني المقدس العظيم على نصوص صريحة وواضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهل تريدون أصرح من هذا النص : - (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فلقد تضمنت واشتملت على الحماية والبر والاحسان إليهم وهو ما فيه مصلحة عامة ولا يخالف الشرع ولا العرف. نعم أيها الإخوة إن الاسلام الذي قدس الوحدة الانسانية العامة في قوله تعالى (يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ....). وهو أيضا الذي حمى الوحدة الدينية العامة فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الايمان بالرسالات السماوية جميعاً بقوله تعالى: ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق..). هذا هو الإسلام بني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سبباً في تمزيق وحدة متصلة، ولم يترك الأمر هكذا بل حدد الاسلام تحديداً قوياً من يحق لنا ان نناوئهم أو نقاطعهم ولا نتصل بهم، فقال تعالى : (إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). ذلكم هو موقف الاسلام من غير المسلمين واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه فموقفه موقف سلم ورفق ما استقاموا واخلصوا، إن ما يقوم به بعض المنتسبين للإسلام - هداهم الله - عكر صفو العلائق السياسية ..الخ وغيرها وباعد بيننا في العلاقات الدولية على اثره تهيب الكثير التعامل معنا ونعتونا بأقصى النعوت (وهم في ذلك معذورون) وان هذه الفئة وإن كانت منا لا يمثلوننا وليس فكرهم هو فكرنا ولا منهجهم منهجنا ولا فعلهم فعلنا..، فأسأل الله لهم الهداية والرشاد وقد حرصت الدولة حرسها الله ممثلة في قطاعاتها الأمنية والتعليمية والاعلامية والدينية كل فيما يخصه على اجتثاث هذا الفكر من جذوره وضرب رؤوس هذه الفتنة بشكل استباقي مما نتج عنه تصحيح كل المفاهيم الخاطئة والله أسأل أن يعينها ويقويها ويمدها بمدد من عنده. فيا أيها العالم: - إن الإسلام هو الذي يحكم وهو الذي يبين وهو الذي يرسم وهو أيضا الذي يقول في المحافظة على العهود وأداء الالتزامات ليس غيره، اقرأوا معي قوله تعالى : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). وأيضاً قوله تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه). هذا هو الاسلام وهذه هي قواعده التي لزاماً على المنتسبين إليه أن يظهروها ليعتبرها الجميع، هذه تعاليم ديننا وهذا ماضي رجال الذين مثلوا الاسلام خير تمثيل في السلم والحرب من الرعيل الأول من صحابة وتابعين وتابعيهم من فقهاء وعلماء ليس فيه إلا الانصاف كله، فمثل هذه المؤتمرات والحوارات تكشف الحقيقة وترد على المزاعم وتعيدنا إلى ذلك الماضي المبارك، وإنني أناشد جميع من سيحضر هذا المؤتمر المبارك أن يثبتوا ايمانه بثمرة هذا العمل وأن يوفروا الاخلاص له وأن يزيدوا في الحماس للخروج لما يطمح له العالم كله فقد عظمت المهمة وكثرت الواجبات وتضاعفت الحقوق وثقلت الأمانة في أعناقكم ووقف الجميع على اطراف أصابع أباهمهم لينعموا بثمرة هذا الجهد المبارك العظيم. وأنبه الجميع أن لا يفسدوا عليكم من جاء وقد خمر نيته على الافساد بالمخالفة ومحاولة افساد المنهج العام بإظهاره متعدداً متبانيا في الخطط والطرائق وحبهم للتزعم والقيادة فهؤلاء هم الذين يفسدون ما صلح ويفرقون ما اجتمع من الجهد والفكر والقوى ليسدوا طريق الوصول إلى الغايات السامية علينا فلا تنشغلوا بهم وأملأوهم حسرة بالاتفاق. وإن هذا الحدث التاريخي العظيم الذي سيسجله التاريخ لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله بأحرف من نور لهو مشرق عهد جديد يراد منه تنشئة هذه الأمة القادمة على منهاج واضح وأعمال جليلة مجيدة، فجزِى الله خادم الحرمين خير الجزاء وهنيئاً لمقامه الكريم عظيم الأجر وشرف الفوز وخلود الذكر وانصاف التاريخ فالله وحده يتولى مثوبتكم ووفق جميع المجتمعين إلى ما فيه خير هذه الأمة حاضراً ومستقبلاً. عضو رابطة الأدباء والكتاب والمؤرخين لأبناء حوض البحر الأحمر