ألقى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، أمس الأول الجمعة في المتحف البريطاني في لندن محاضرة عن الجهود التي تقوم بها حكومة المملكة العربية السعودية لتعزيز البعد الحضاري للمملكة، وذلك ضمن الندوة العلمية المصاحبة لمعرض “الخيل من الجزيرة العربية إلى سباقات آسكوت الملكية”، الذي يقام حالياً في العاصمة البريطانية. وأكد رئيس الهيئة خلال محاضرته على أن ما تشهده المملكة اليوم من اهتمام استثنائي بالتراث الوطني وإبرازٍ للبعد الحضاري يرجع إلى الدعم الكبير من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله – الذي استطاع باقتدار؛ الموازنة بين تحقيق تسريع التنمية والتطوير الشامل في مختلف المجالات- و هو ما بات يعرف به و يبادر به شعبه و العالم باستمرار، وبين المحافظة على الأصالة وترسيخ الاهتمام بالموروث الثقافي والحضاري وتشجيع الاكتشافات الأثرية، وتطوير المواقع، وتوجيهه بإطلاع العالم على مكانة هذه البقعة في سلسلة التاريخ الإنساني، وربط المواطنين بتاريخ بلادهم العريق واعتبار هذا الموروث أحد المكتسبات الوطنية التي تميز الشعب السعودي، كما دعم–حفظه الله- استشراف المواطنين لمستقبل بلادهم الزاهر الذي يتكىء على إرث من الحضارات المتعاقبة التي شكلت هوية إنسان الجزيرة العربية، ومشاركته الفاعلة في تشكيل الحضارة الإنسانية. وأضاف سموه: نحن فخورون كمواطنين سعوديين بأن تكون أرض المملكة العربية السعودية حاضنة لأقدس بقعتين في العالم وهما مكةالمكرمة والمدينة المنورة، والتي يسافر إليهما سنوياً للحج والعمرة والزيارة عشرات الملايين من المسلمين من جميع دول العالم، مما حمّل المملكة مسؤولية القيام بمهام جسيمة تجاه العالم الإسلامي والبشرية جمعاء، وأن تسعى بشكل دؤوب إلى تحقيق الاستقرار والسلم العالميين، مشيراً سموه إلى أن هذا النهج الحكيم مستوحى من تعاليم الإسلام السمحة، التي تعد سبب ما تنعم به المملكة من استقرار وازدهار، حيث تشكل تعاليم الإسلام وقيمه نهج قيادة المملكة وشعبها في كافة مناحي الحياة اليومية. وقال سموه خلال المحاضرة : “ الجميع يعرف البعد الاقتصادي للمملكة، وذلك لكونها تُعد المحرك الاقتصادي الأبرز في المنطقة، والمصدّر الأول للنفط في العالم، وتلعب دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي، إلا أننا نفخر أكثر بكون المملكة استطاعت استثمار هذه القوة الاقتصادية في بناء الإنسان السعودي، وتأسيس البنى التحتية، وتوفير الخدمات في مختلف المجالات، حتى استطاعت المملكة أن تكون الدولة الأكثر نمواً في منطقة الشرق الأوسط”. واستعرض الأمير سلطان الخطوات التي تقوم بها الدولة بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين يحفظهم الله نحو تعزيز البعد الحضاري للمملكة، بهدف تحويل التراث الثقافي الوطني إلى واقع معاش؛ عبر تأهيل الأمكنة التاريخية والمواقع الأثرية والتراثية وتطوير الحرف اليدوية، وتقديم البرامج التعريفية والتوعوية للتغلب على القصور الكبير في إدراك البعد الحضاري للمملكة سواء من قبل المجتمع المحلي أو الدولي، حتى أصبح المجتمع يعيش حالياً مرحلة انتقالية إيجابية في نظرته للتراث.مشيرا إلى أن للمملكة العربية السعودية ثقل ديني وسياسي واقتصادي معروف لدى الجميع، إلا أن بعدها الحضاري لا زال مجهولا لدى الكثيرين وهذا ما سعت الهيئة لإبرازه من خلال مبادرة البعد الحضاري. وأكد رئيس الهيئة أننا اليوم هنا في المتحف البريطاني تنفيذاً لتوجيه خادم الحرمين الشريفين الذي وجه باطلاع العالم على اكتشاف حضارة المقر الذي يثبت حسب الدراسات أن أول استئناس الإنسان للخيل معروف حتى الآن كان على أرض الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية) قبل (9000) سنة مما يثبت ارتباط إنسان هذه الأرض بالخيل كثقافة وحاجة أساسية في الحياة. وأشار سموه إلى أن الشواهد الأثرية والتعاقب الحضاري وتقاطع طرق التجارة والتبادل الاقتصادي هو خير شاهد على أن أرض الجزيرة العربية لم تكن منغلقة في يوم من الأيام، بل كانت في حوار حضاري وثقافي واقتصادي متواصل مع الآخر، فالإسلام نزل في أرض حضارات عرف أهلها ثقافات وأديان متنوعة، ولما جاء الإسلام استطاع إقناع أهلها بالدخول فيه لما فيه من سماحة واحترام لتلك الحضارات التي تعامل الإسلام معها بكل عدل و احترام، وأبقى على آثارها المادية، ولم يكن في يوماً دينا يحاول استئصال مظاهر ما سبقه ، وقد قال الرسول الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” تلك الأخلاق الموجودة في الحضارات والأديان السابقة، كما قال عليه السلام: “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا”، وتستمر المملكة في أداء دورها الحضاري المنبثق من مكانتها، حيث أسست مؤخراً مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في فيينا، و هو ما قدرته منظمة اليونسكو لخادم الحرمين الشريفين ومنحته ميداليتها الذهبية وهي أعلى وسام تمنحه المنظمة تقديراً لجهوده حفظه الله في تعزيز ثقافة الحوار والسلام وتثميناً لمبادراته العديدة في عقد مؤتمرات ولقاءات دولية في عدد من العواصم العالمية والمنظمات الدولية في هذا الشأن، فالمملكة تمارس دورها الحضاري عبر تأسيس التواصل الحضاري بين الشعوب، كما أن المملكة تعد أكثر الدول الداعمة للأعمال الإنسانية في العالم مقارنة بدخلها، ولاشك بأن ما تشهده المملكة اليوم من استقبال أكثر من (8) ملايين من غير السعوديين الذين يعملون فيها هو تأكيد على أن قدر هذه الأرض هي في احتضان كافة الأجناس والأعراق البشرية والتعايش معهم، فهم يعيشون في المملكة حياة طبيعية، ويتنقلون فيها من مكان إلى آخر بحرية تامة، ويطلعون على ما تحتويه من مواقع أثرية وتاريخية وتراثية ويستمتعون بها.وقال سموه : “ قدمنا إلى بريطانيا لنعرض آخر مكتشفاتنا الأثرية ولنتناقش حولها؛ لأننا نعتقد بأنها جزء من التراث العالمي، ونشعر بأننا أمناء على حضارات عريقة يجب أن يراها العالم ويشاركوننا المعرفة “. وتحدث سمو الأمير سلطان بن سلمان في محاضرته عن الدور الذي تقوم به الهيئة العامة للسياحة والآثار وشركاؤها في إبراز البعد الحضاري للمملكة، بداية من مسار التوعية والتعريف، وإطلاق عدد من المشاريع الموجهة إلى المؤسسات التعليمية والمجتمعات المحلية والدولية، وتدشين الحملة الإعلامية لتعزيز البعد الحضاري، وحملة استعادة الآثار الوطنية، والبرامج التعليمية المشتركة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، إضافة إلى إقامة المعارض الدولية والملتقيات المتخصصة التي تجمع الخبراء والمعنيين، ومن ذلك ملتقى التراث العمراني، وملتقى المتاحف الخاصة، ومعرض الآثار المستعادة، ومعرض روائع آثار المملكة الذي زار حتى الآن أربع محطات (فرنسا، أسبانيا، روسيا، ألمانيا) وتمكن من استقطاب أكثر من مليون زائر حتى الآن. وأشار إلى أنه بالتوازي مع مسار التوعية والتعريف انطلق مسار الحماية والتأهيل والتنمية للمواقع الأثرية والتراثية، بعد تم استطلاع التجارب العالمية المتقدمة في هذا المجال، حيث تعمل الهيئة على تأهيل (120) موقعاً أثرياً، وفي مقدمتها موقع مدائن صالح والذي تم تأهيله مؤخراً، وموقع الدرعية التاريخية الذي سيتم افتتاحه قريباً بعد اكتمال عملية إعادة تأهيله، علاوة على تنفيذ (23) مشروعاً لترميم أواسط المدن التاريخية وتأهيل القرى والبلدات التراثية والأسواق الشعبية بالتعاون مع الشركاء من الجهات الحكومية مثل وزارة الداخلية ممثلة في إمارات المناطق، ووزارة الشؤون البلدية والقروية وأمانات المناطق وبلديات المدن والمحافظات والمجتمعات المحلية، وإنشاء خمسة متاحف إقليمية جديدة، وكذلك تطوير ستة متاحف محلية قائمة ورفع مستوى العروض المتحفية فيها، و تشجيع المتاحف الخاصة و تطوير قدراتها و دعمها معرفياً و تسويقياً، وتأهيل عشرة قصور تاريخية وتحويلها إلى مراكز للتراث والثقافة. كما تحدث رئيس الهيئة عن حركة الاستكشاف في المواقع الأثرية، موضحاً أنه تعمل الآن (24) بعثة علمية تضم خبراء سعوديين ودوليين في المواقع الأثرية السعودية، ولفت إلى أن الهيئة أعدت نظام جديد للآثار والمتاحف ينتظر إقراره قريباً من قبل الدولة، ويتضمن كافة التنظيمات التي من شأنها حماية آثار المملكة وتراثها، واستصدار القرارات والتوجيهات من الدولة التي تعزز حماية المواقع الأثرية والتراثية، وإطلاق سجل الآثار الوطنية الذي يحوي معلومات متكاملة عن القطع الأثرية بالمملكة، وبرنامج تطوير عمل مراقبي الآثار بدلاً من المفهوم السائد لحراس الآثار. وعن مسار استعادة الآثار الوطنية، أكد سموه أن الهيئة تمكنت بمساندة من وزارتي الداخلية والخارجية وعدد من الجهات الحكومية والأهلية يأتي في مقدمتها شركة أرامكو السعودية، إلى جانب المواطنين والمقيمين من استعادة (14) ألف قطعة أثرية من الخارج، و(3) آلاف قطعة أثرية من الداخل، تم عرضها في المتحف الوطني بالرياض ضمن معرض رعاه خادم الحرمين الشريفين وهي مستمرة في تلقي الآثار من عدة مصادر. واعتبر رئيس الهيئة الجهود السابقة هي الخطوات الأولى نحو تعزيز البعد الحضاري للمملكة، وسيتبعها خطوات أخرى لتحقيق الأثر المنشود، معرباً عن اعتقاده بأن وتيرة التفاعل مع قضية البعد الحضاري في المملكة ستكون أكبر خلال السنوات القادمة، وذلك بعد اكتمال تحول المواقع الأثرية والقرى التراثية وأواسط المدن التاريخية إلى مواقع تضج بالحياة ويعيش فيها الناس ويستمتع بها المواطنون وأسرهم، ولتكون مورداً اقتصادياً وفرصاً استثمارية تولد فرص العمل للمواطنين رجالاً ونساء. كما تطرق سموه إلى دور المملكة في الحفاظ على الآثار والتراث في العالم، مؤكداً أنها كانت من أوائل الدول التي شاركت في تأسيس منظمة اليونسكو العام 1946م. وفي ختام المحاضرة أجاب سموه عن عدد من التساؤلات التي طرحها العلماء والمختصون والباحثون من الجامعات البريطانية ومن جامعات ومؤسسات أوربية، بالإضافة إلى الأسئلة التي وجهها الإعلاميون وممثلو الوسائل الإعلامية البريطانية والعالمية والعربية. الجدير بالذكر أن المحاضرة حظيت بحضور كبير من قبل أصحاب السمو الأمراء، والمسؤولين البريطانيين، وأعضاء السلك الدبلوماسي والمؤسسات التعليمية والثقافية في العاصمة البريطانية، بالإضافة إلى العلماء والمختصين المشاركين بالبحوث والدراسات في موضوع الندوة العلمية، والمهتمون بموضوع الندوة من الدارسين والباحثين. ويأتي انعقاد الندوة العلمية مصاحباً لافتتاح معرض “الخيل من السعودية إلى سباقات أسكوت الملكية”، والذي يقام في المتحف البريطاني بالتزامن مع الاحتفالات باليوبيل الماسي لتربع جلالة الملكة إليزابيث الثانية على عرش بريطانيا.