سبحان الذي أبدع الإنسان ؛ خلق له النعم التي لا تُعد ولا تُحصى ؛ وميزه عن خلقه بالعديد من المميزات التي لا تُجزى ؛ ولعل أكبرها العقل الذي يحوي في داخله الكثير من العمليات التي ما زالت قيد الدراسة في الميادين المختلفة. التذكر والنسيان عمليتان عقليتان أشغلتا الكثير من العلماء والأطباء والمفكرين في مختلف الميادين ؛ فكيف لهذا العقل البشري أن ينظم دخول المعلومات ويخزنها ويسترجعها في ذاكرة لا تحتكم إلى مبدأ السعة أو الكمية ! كما أشغلت الكثير مسألة استرجاع المعلومات ومدى التحكم فيها أو السيطرة عليها وهل المعلومات وحدها التي تسترجع أم الموقف الذي حصل فيه اكتسابها والمشاعر والانفعالات التي رافقتها ؛ وفي إجابة على سؤال وصلني من أحد القراء عن طبيعة المعلومات التي يكتنفها حيز النسيان ؟ وهل النسيان عملية إرادية او لا إرادية ؟ أقول : النسيان نعمة من نعم الله , من الله بها على الإنسان حتى يستطيع العيش والتكيف مع الأحداث والخبرات في هذه الحياة وخصوصا الصادمة والمؤلمة منها , وتشمل هذه العملية جميع الخبرات المعرفية الإدراكية منها والانفعالية والتي يمكن أن يستشعرها الإنسان بحواسه الخمس المختلفة. هذا وأن أكثر المعلومات التي تكون معرضة للنسيان هي تلك التي يكتسبها الإنسان بحاسة واحدة , أو تلك التي يتم إدخالها أو التعرف عليها في أجواء غير مرغوبة أو غير مهيأة نفسيا أو جسديا من قبل الفرد ذاته. وأقرب مثال على ذلك هو تطاير المعلومات من الطلاب والطالبات بعد انتهاء فترة الاختبارات ؛ حيث إن عملية الإدخال للمعلومات واستذكارها كان تحت وطأة ضرورة النجاح التي تقتضي الإلمام بالمعلومة في أسرع وقت ممكن والحفاظ عليها لمدة زمنية تنتهي بانتهاء فترة الاختبار. وهو ذاته ما يفسر المثل القائل ( ساعة الولادة ساعة منسية ) حيث أن الأم تنسى الخبرة السلبية ومشاعر الألم التي تشعر بها وقت الولادة مما يدفعها إلى خوض التجربة عدة مرات على الرغم من الألم الذي تمكن منها في المرة الأولى ؛ إلا أن رغبتها وإصرارها جعلاها ترى التجربة بمنظار إيجابي فتنسى الألم الذي تعرضت إليه فيها. ومن الأمثلة السابقة قد يتبادر للذهن من أول وهلة بأن النسيان عملية إرادية ؛ لكنه في حقيقة الأمر عملية لا إرادية تتحكم فيها بعض العوامل الإرادية والتي من شأنها تسريعها أو إيقافها أو الحد منها. كما أنها عملية تحتكم إلى مستوى الصحة النفسية والجسدية للفرد. فالفرد السليم نفسيا وجسديا يتمتع بقدرة جيدة على استخدام هذه العملية بدون وجود معوقات تؤثر عليها. أما عن آلية عمل النسيان ؛ فيمكن أن نقول بأنها آلية عقلية تتم عن طريق إرسال المعلومات بصورة لا إرادية من حيز الذاكرة القريبة اليومية إلى حيز الذاكرة البعيدة والتي تمثل الخبرات والذكريات الإيجابية والسلبية للإنسان. حيث أنه يمكن استرجاع المعلومات في أي وقت وتتوقف صعوبة وسهولة ذلك على نوع المعلومة وطريقة اكتسابها والذكريات المحيطة بها. في الختام أسأل الله أن يمتعنا بنعمة النسيان وبسائر النعم ؛ وأن يجعل لنا منها سبيلاً إلى شكره ومرضاته.