العبادة هي الصفة الثانية للأنفس الزكية التي يشترطها الله سبحانه لكي يشتريها ويعطي لها الجنة , وما أعظمه من ثمن , وما أهونها من بضاعة , وما أكرمه من إله كريم جواد عفو ودود جل شأنه. والعبادة هي الاستجابة لكل أوامر ونواهي المعبود وإفراده وحده بهذا الحق والتسليم له فيه والالتزام الكامل بتلك الأوامر والنواهي , وقد عرف صاحب الظلال - رحمه الله - العابدين بقوله : هم “ المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية.. صفة ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع , وهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية “. والعبادة تكون على الكيفية والصفة التي يأمر بها المعبود , لا أن تكون على هوى العابد , فللمعبود سبحانه أن يتعبد عباده بالكيفية التي يريد , وليس للعابد إلا أن يقول سمعنا وأطعنا , فكما يسلم العبد لربه بأنه خالق فيجب عليه أن يسلم له بأنه آمر له الأمر وعلى العبدالتنفيذ فكما يقول الله تبارك وتعالى “ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ “. ولا يصح للعابد أن يسال عن الحكمة من وراء عبادته - حتى لو ظهر من ورائها بعض الحكم - , فليس له أن يسأل عن الحكمة من توقيت الصلوات وعدد الركعات أو كيفية الصيام أو مكان الحج أو علة تحريم الخمر أو الخنزير أو حكمة الحجاب للمرأة وغيرها , فكل هذه الأمور التعبدية لا مجال للسؤال عن الحكمة فيها , إذ ان الحكمة الكبرى فيها أنها أوامر المعبود التي أمر بها عباده والتي يرضيه فعلهم لها ويغضبه تركهم لها , وعلى الرغم من وجود بعض الحكم فيها التي تتبين للإنسان كل فترة إلا أنه لن يتعبدالله بما يقنع عقله فقط بل يستمع للحِكم لتزيده إيمانا بربه وبحكمته لا أن ينتظرها لإقناعه بتنفيذ أوامر ربه . ولا يصح للعابد أن يزيد أو ينقص من عبادة وفق هواه , حتى لو كانت الزيادة أو النقص من جنس العبادة , فلا يصلي المغرب أربعا , أو يصوم يوم العيد أو تصوم المرأة وهي حائض , ويظن العبد أن في ذلك إرضاء لربه , إذ ان ما يرضى ربه في العبادات أن تنفذ مثلما أمر لا مثلما يرغب العبد ويهوى , فالأمور التعبدية ملك لله وحده ويبلغنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم , وليس لبشر بعده – كائنا من كان - أن يخترع أو يبتدع عبادة جديدة لم يأمر بها ربنا سبحانه أو ينتقص من عبادة أمر الله بها. لو أمعنا الفكر والنظر في العبادات التي أمر الله بها لوجدنا الأوامر والنواهي فيها قليلة جدا بالمقارنة بباقي شئون حياتنا , فأداء الخمس صلوات لا يكلف ساعة واحدة من اليوم كله , وأداء الصيام لا يستغرق إلا شهرا واحدا كل عام , وأداء الزكاة يكون باستخراج ربع العشر من المال الذي بلغ النصاب ومر عليه عام كامل , وأداء الحج مرة واحدة في العمر لمن استطاع , وما حرم من الأطعمة قليل جدا كالميتة والدم ولحم الخنزير وما لم يذكر اسم الله عليه , وكل الأطعمة بعد ذلك مباحة , وما حرم من الأشربة المسكر وكل الأشربة بعده مباحة , وهذا من فيض كرم الله الخالق المعبود علينا إذ لم يكلفنا بما فيه مشقة علينا. ويسر الله عز وجل العبادات للناس وجعل منها في داخلها تيسيرا على من لا يستطيع , فرخص للمريض أو الكبير أن يصلي جالسا أو مضجعا أو نائما بحسب حاله وقدرته , ورخص الفطر في رمضان للمريض والمسافر والكبير الذي لا يقوى على الصيام , ولم يأمر بالزكاة من لا يملك النصاب أو من يملكه ولم تكتمل عنه السنة , ورخص في الحج لمن لا يستطيع ذلك إذ لم يكلفه به ابتداء , وأمر المرأة بعدم الصوم والصلاة في أيام حيضها ورخص لها في إعادة الصوم دون الصلاة بعد انقضاء حيضها , وجعل الله التيسير سمة وقاعدة لأحكامه فقال سبحانه “ َ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” وأخبرنا بمعرفته ضعف الإنسان وأثبته له وجعل ربنا ذلك أصلا للتخفيف عنه فقال “ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً “. ولم يكلفنا ربنا بشئ لا نستطيع أداءه , بل كانت كل أوامره ونواهيه مما يستطيعه البشر , فقال سبحانه “ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ “ واقتضت حكمته سبحانه أن يكون الرسل – كل الرسل – من البشر حتى يأخذوا على عاتقهم المهمة الأولى وهي أداء العبادات على وجهها الصحيح أمام الناس ليعطوا بذلك المثل الحي أن كل الأوامر والنواهي الإلهية قابلة للتطبيق وليست مستحيلة أو معجزة للبشر , ولكن يستطيع كل منهم أداءها دون عناء أو مشقة أو إرهاق بل ويستطيعون أيضا أن يزيدوا عليها من جنسها الكثير من التطوعات مما يفتح بابا للتفاضل بين الناس بحسب ما يتطوع كل منهم. والعبادة تنقسم إلى أوجه , فمنها ما بين العبد وربه ومنها ما بين العبد وباقي العباد , فجعل الله حقوق العباد ذات أهمية كبرى وسيسألهم الله عنها , فلم يتعبدهم بأمور أخروية فحسب بل تعبدهم أيضا بأمور أخلاقية دنيوية بينهم , من قصر فيها فقد افسد دينه ودنياه وتعرض لعذاب الله وعقوبته إلا أن يشاء الله , وترد الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موحية بخسران العبد إن ضيع حقوق العباد حتى لو أدى فروض الله كاملة , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعلُ، وتصدقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ لا خير فيها، هي من أهل النار”. قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار، ولا تؤذي أحداً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هي من أهل الجنة “ وفي حديث المفلس ما يؤكد ذلك , فعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال صلى الله عليه وسلم : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا ، واكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته ، فان فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار“رواه مسلم.” وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.