قال فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحريم: أيها المسلمون لقد حل بكم ضيف اشرأبت للقياه نفوس الصالحين، ضيف له في قلوب العارفين مخيم، ضربت أوتاره وتسابقت إلى استقباله، لقد أتاكم أيها المؤمنون شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر البطولات والانتصارات، ومجاهدة النفس والهوى والشيطان، "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". وأضاف فضيلته يقول: أيها المسلمون لقد أظل أمة الإسلام هذا الشهر المبارك وهي تعالج من اللأواء والخطوب والشحناء والعداوة والبغضاء ما مزق به مجتمعها وباعد قريبها فخونت أمينها وأمن خونها وصدق كاذبها وكذب صادقها فكان حلوله عليها ضيف عزيزا، فرحته سانحة إلى أوبة بعد شرود، وكور بعد حور، ويقظة بعد غفلة، إنه إن لم يكن شهر رمضان نقطة فاصلة للأمة بين ماض جريح وحاضر كيس قوي فطن، فما هو إلا الجوع والعطش ولات ساعة اغتنام. وأوضح الدكتور الشريم أن شهر رمضان يعد شهر تنقية النفس من عوالق الحياة وزخرفها، فهو يذكر بالجوع والعطش ويلجم المرء عن الترف، وإنه شهر المحاسبة والجد مع الذات، وشهر إلجام النفس عن كل حظ بغيض، وخلق دنيء، وإنه شهر اغتيال المعاصي، وإذكاء الممانعة أمام الشيطان. ومضى الشيخ الشريم يقول: إن الله جل شأنه حينما شرع لنا صوم شهر رمضان جعل التنافس فيه مشرعا لعموم عباده فهو لم يفرض للأغنياء أو الفقراء أو العباد كلا بل هو لعموم الأمة، فهو سلوة العباد وتجارة الأغنياء وخلوة الذاكرين كل بما أعطاه الله فإن للغني فيه حظا وللفقير حظا ولقارئ القرآن حظا ولقائم ليله حظا فإن المحصلة في ذلكم كله تحقيق التقوى التي شرع الصوم لأجلها، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". وزاد فضيلته يقول: عباد الله إن من أعظم الأخلاق التي يتجاذبها الصائمون في رمضان بعد كبح جماح النفس بالصوم إبان تصفيد الشياطين، ذلكم الخلق الرفيع الذي يتجلى في التراحم إذ يزداد توقدا يضطر النفس إلى أن يرهف طبعها ويأسف قلبها فيحمل الصائم في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه المقصرة، فإن من فاق الناس بنفسه الكبيرة ستكون عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة دون بطر أو غمط وإذا عظمت نفس المرء هان عنده المال والبذل والجود فأغتال شحه ووأد أنانيته ويتدبر بقلبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، قالوا لمن هي يا رسول الله، قال لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى والناس نيام". وأكد إمام و خطيب المسجد الحرام إن لم يكن شهر رمضان المبارك سببا لإذكاء الإحساس بهيبته وحرمته والبعد عن مشوشاته وملهياته فإن النفس ستخبث حينئذ فتشوش روحانيته، وتوجد له جوا من المتضادات اللامسؤولة متمثلة في السباق المحموم عبر القنوات المرئية باستنفار مثير للدهشة إلى ما يخدش الحياء وينشر الإثم فيحلق الدين قبل أن يحلق العفاف والحياء يأزون من خلاله الأبصار والأسماع أزا ويأطرونها أطرا على أن تجعل مفهوم رمضان أنه شهر للتسلية والترفيه، بمشاهدات تضاد خاصية هذا الشهر، من أفلام هابطة ومشاهد تفسد ولا تصلح وتفرق ولا تجمع. وتسائل فضيلته قائلاً أين هؤلاء من عقوبة انتهاك حرمة شهر الله المبارك أف لهؤلاء ثم أف، ألا يعون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وقال الدكتور الشريم: إن من امتلئ قلبه بشواغل الدنيا وصوارفها زاحمت الصفاء والإقبال على الطاعة في شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وإذا كان شهر رمضان شهر الدعاء والذكر وطول القنوت فحري بالمؤمن الغر ألا يزاحم شيئا من ذلكم بصوارفها ليستحق بذلك أن يدخل في جملة الذين إذا دعوا ربهم استجاب لهم، من الذين أرشدهم الله في آيات الصيام بقول: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"، والدعاء المستجاب هنا هو دعاء المخبت الخاشع الموقن بالإجابة. وختم إمام وخطيب المسجد الحرام خطبته بالقول: أيها المؤمنون الصائمون القائمون إنكم تقبلون في هذا الشهر إلى كريم رحيم قريب ودود يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل يحب التوابين ويحب المتطهرين وإنه لأشد فرحا بتوبة عبده وإقباله عليه ممن ظل راحلته في صحراء مهلكة ثم وجدها، فأروا الله من أنفسكم في هذا الشهر قبل إنفراط عقده وتصرم أيامه ولياليه، فإن الشهر المبارك أشد تفلتا من الإبل في عقلها.