هي سنة الحياة , فكلما اقتربنا من أشخاص فارقناهم , وكلما أحببناهم فقدناهم ؛ لينسلوا من عالمنا بصمت مؤلم , يحز في النفس دون أن ينطق , ويداعب الكرى الأجفان دون الأرواح , التي كانت تملأ الدنيا بالفرح , والأمل , والبهجة . وكما النسيم يمر لمحة , فقد مر من تحبين من أمامك ياكوثر بهذه السرعة , عندما كتبت في فخ الرثاء الذي نكرهه : ” نعم .. أنا أم الشهيد محمد العيسى ، – وخالة الشهيدين – عبدالجليل , ومحمد الأربش ” . عندما تشتد بنا الشدائد , تكون – حينئذ – من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان ؛ نار تستعر في القلب , وحرقة تضطرم به الكبد , ويفت به العضد . وبقدر ما كانت لغة الفراق إفرازا لحالة وجدانية , وعاطفية تغتال أعمارنا ؛ لتترك أثرا بعد أثر ؛ مثيرة للشجون , ومؤرقة للجفون , إذ لا شيء أفجع على القلب من أن يصحو الإنسان يوما , فيرى نفسه بعيدا عن حبيب , كان أقرب إليه من قلبه . يا من فقدت ابنك , وابني أختك , ولن يعودوا , بل تركوك بغير يوم موعود ؛ وأدخلوا على قلبك الحزن , بعد أن كانوا رقما صعبا في حياتك , لا يمكن تجاوزه . وواروك خلف انكسار خافقك النابض أسى , وكتمت مرّ طعمه بين أضلعك تصبرا , حين غادروا أقمار سمائك , وانسدل الليل الطويل في أطراف روحك , وأنت ترين أزهارا يانعة , تقطف أمام عينيك , وطيفهم يفارق ناظريك , وأصواتهم تغيب عن مسامعك . تمضي بنا الحياة ؛ لتدوم لنا الذكرى – فقط – بين الأحياء , إذ لا يدوم في الدنيا حال , كونها لم تبن على اللقاء , والاجتماع أبدا , بل جُعل الفراق أساسا لها , ولأنك – أيتها الأم المكلومة – ستجرين من العين مدمعه ؛ لأنك تشعرين بمرارة هذا الفراق على روحك , بعد أن انطفئت دونه روائع ذكرى الأحباب العذب , وستنغمس هالات الشوق على ملامح وجهك , عندها سيحتويه ألق عينيك , ويلامس تجاويف الفراق بيديك . غابوا عن الحاضر بعدما كانوا ماضي الحياة , وروحها , ومستقبلها ؛ لكنهم سيبقون أزهارا في حياة ؛ حتى وإن قاربت الإغفاءة الدائمة ؛ لتشتد القلوب لهم بالدعاء , وتمتد حياتهم بعد مماتهم في نفوس الآخرين ؛ فالله نسأل أن ينير قبورهم بخير أعمالهم , وأن يتقبلهم قبولا حسنا , وأن يرتب على فراقهم جزيل الثواب , وأن يعد والديهم شفاعتهم فيهم يوم المآب .